الخميس، 21 يونيو 2012

الحنين إلى أي شئ !

حزن وحيدة كانت كما حواء حين تركت آدم في حُلمِ لهُ وركضت خلف خطيئة المعرفة. راحت حواء تفتش عن المعرفة بينما هي غارقة في البحث عن ذات مفقودة.

هل هي مازالت هي أم أنها صارت كما يريدونها أن تكون؟

أمطرت سماء ذاكرتها زخات من جحيم الاشتياق إلى أب كان ظل السماء في أرضها، كان حلم تحيا فيه، كان قلب ينبض في جسدها، كان عقل يحمل عبء أحلامها، كان بدء عالمها ومنتهى كونها.

في عزلة عالمه عاشت سنوات هانئات، طفلة تركض فى حلم أبيها، تكبر في عينيه وتصغر دنياها في أب. تجسدت دنياها في شخص أبيها، لم تشعر يوماً بغربة في عالمه، كان قلعة ترد عنها سهام المقربين، ظل مخملي ترقد فيه دون اكتراث بأحزان.

كانت وحيدة مع الآخرين، دافئة بحضرة أبيها. قُبلة دافئة على خد أبيها في الصباح كانت كافية لإعادة ترتيب عالمها، لم تفرط في تلك القبلة يوماً، ولكنه فرط فيها حين غادرها، هل بوسعنا أن نغادر متى شئنا أم أننا نركض رغما عنا إلى هاوية الاغتراب؟

حين كان أبوها، كانت أمها غائبة رغم حضورها الواقعي، أمُ كشأن الأمهات الباقيات، تقضى أغلب أوقاتها في مطبخها، تحفل بأولادها كموظف حكومي يقضى ساعات العمل بملل وسأم يقتلانه.

غاب الأب في رحلة سماوية -ربما تكون قصيرة- للقاء بعض الأصدقاء، وبقيت الأم وحدها، ولكنها غادرت مطبخها لتجلس مرتاحة على كرسي الأب دون أن تتخلى عن أمومتها الحكومية.

كانت هى حائرة يغللها قلق الاغتراب، إلى أين ذهب أبي؟

كانت ترددها بعفوية طفلة يهدهدها الزمان.

وسارت الحياة كعادتها لتسحق أجمل مافينا، وبدت وكأنها تريد الانتقام من أنثى لم تحفل بغير أنوثتها في حضن أبيها.

تقلبت في نار الخلافات بين أم تقضى ساعات الأمومة سريعاً لتنهى ماتبقى لها من سخافات الحياة وبين إخوة يستشرفون المستقبل عبر ماضى أبيهم.

ولأنها صغيرة لا بحساب السنين وإنما بمقدر الأوجاع جرحتها الأيام، واستمرت جراحتها تتوالى يوماً بعد يوم، حتى التقيتُ بها في ساعة بدا لنا أن حزننا القدري قد تلاشى بفعل شئ ما قد اقترفه أبوانا.

كنتُ ودعتُ أبي بعدما أشاح بوجهه بعيداً عني ولم يضحك، ربما كان غاضباً لأن الموت لم يمنحه بضع دقائق ليُقبل أولاده ويودع عالمه ويرقد هانئاً.

وربما كان حزيناً لأن شيئاً ما بيننا قد انقطع منذ زمان بعيد، لا أعرف كنه هذا الشئ، ربما غلط في اختيارات، تبدو سماوية في تجلياتها البسيطة، وبتعقيد أكثر تبدو قدرية بغير إرادة منه.

ببساطة القروي أدرك حتمية الاختيار بحرية تامة بين اختيارات تبدو كثيرة، رغم أنها تصب في قالب كوني واحد يودى بنتيجة واحدة، أوجاع كثيرة.

وبرغبة ملحة حاول ترقيع خرقة قدرية فرضت علينا جميعاً أن نحيا سوياً.

ربما فشل أبي في إعادة ترتيب عوالمنا لتلائم واقع يطل علينا بوقاحة من علٍ، غير أنه، على كل حال، حاول!

كنت دوماً شغوفاً بمن حولي، أفكر فيما يفكرون، وأفتش في عقولهم عن أسئلة تؤرقهم، وتوجعهم، وكان السؤال الأكثر إلحاحاً كلما حدّقت في عيني أبي:

هل حقاً نملك أن نختار بحرية كاملة أم أننا نسير عبر دروب مرسومة سلفاً لنكمل نشوة المشاهدة الإلهية لمسرحية أرضية في مسرح عبثي؟

على كلٍ، كان درب أبي في الحياة قصيراً، في أول منعطف للموت ودعنا ونام.

وكانت أمي تمارس أمومتها كطاغية متسلط، يقسو على رعيته عبر حنينه إليهم، يجلد ظهورهم بسوط الحب، مع ماكان من تقديرات لها أو اختيارات كانت توجعنا وتدفعنا للتلاشئ شيئاً فشيئاً.

الواقع شئ أخر غير الكتب، كانت تقول لي، وكنت أسخر من جهلها بقدرة الفلسفة على تفكيك الأشياء وتبسيطها إلى درجة التعقيد.

كانت تسخر مني، مثل كثيرين أيضاً، وترجمني بكلمات، وأفعال أيضاً، عن قسوة الحياة، إلا أنني كنت أتبع منهجاً علمياً في تحليل مقولاتها لتنتهى إلى لا شئ.

غير أن اللاشئ، بتبسيط أكثر وباختزال أشد، يرسم أجمل الأقدار عبثاً وقسوة.

وهكذا رسم اللاشئ خطاً طويلاً سرنا عليه، أنا وهى، كل منا يسير من طرف، والتقينا في نقطة، بدت لنا مركز الحياة.

امتد بيننا شئ ما قد يكون صداقة أو إخوة مجازية، وتقاربنا وابتعدت أوجاعنا، فصرنا كظلين لشخص واحد، قلب واحد وحزن واحد وأب ترك كل منا يعبث مع الحياة.

ولأن العبور على جسر الصداقة سريعاً ما يفضى إلى طريق الحب، أحببتها، وكتمت حبي لأيام قليلة، وكدت أختنق من فرط كظم الحب في صدري.

صارحتها بغير ترتيب مني ولا استعداد منها.

صمتت كعادتها وضحكت أيضا كعادتها.

عما قليل سيرسو بنا الحب على شاطئ الحزن مرة أخرى. فلسنا كأولئك الذين يتمون أفراحهم للنهاية، وإنما قد كتب علينا الحزن مثلما كتب على الذين عشقوا وكرهتهم الحياة من قبلنا.

تألمت كثيراً لفراقها، وأعرف أنها تألمت.

لكنها صارحتني بعدما انتهينا إلى صداقة أخرى، فهى امرأة ليس بمقدورك أن تنزعها من سياق حياتك تماماً، هى إما حبيبة أو صديقة أو أخت ولا يجوز عليها غير ذلك.

صارحتني بأنها عادت إلى حب قديم، كان أمل دنقل قد حكى لنا عنه، وكنا نجلس سوياً لنضحك من عبث أمل بمشاعر العشاق.

كيف تجلس امرأة مع رجل وقلبها معلق بحب قديم ترك ندوباً كثيرة في قلبها؟

حب قديم لم تشفَ منه، كانت تلك الحقيقة.

إنها لم تشفَ بعد، وربما لاتشفى بعد، ولكن مادوري في تلك المسرحية؟

أهو دور العاشق خفيف الظل؟ يضحكها كثيراً ويوجعها قليلاً ويدرب قلبها على الحب.

ركضت داخل حيرتي بمفردي، فإني أحبني حين أكون حزيناً، وأنزوى بعيداً عني حين أكون فرحاً بشئ ما.

هل كان حقاً حباً أم كان شيئاً عبثياً صنعته يد الحياة ؟

أوقن أنها أحبتني ومع ذلك أتوجع لأنها ارتدت إلى حب قديم كنا نسخر منه.

لا أعرف هل أنا حقاً مغرم بالحزن أم أنه قدر إلهي يصيبني مع كل خيبة؟

يوجعنى أكثر وأكثر عجز حروفي عن التحرر من قيود العاطفة، إنه ألم من نوع أخر، ألم الرغبة في الانعتاق من الكلمات المختنقة بداخلك، ألم سرمدي لا يغادرك إلا عندما تسيل نفسك على ورقات، ربما تطرحها بعد ذاك في أقرب سلة للمهملات!

كل ما أعرفه بعدما أحببتها وأحببت غيرها أني أحب الحب.


Share/Bookmark

4 التعليقات:

غير معرف يقول...

انت عبقري كتباتك رائعه كنت فقدت الامل ان يتوجد في جلنا ادباء بجد. بس انت ارهاصات اديب

Ibrahim Awwad يقول...

يوجعنى أكثر وأكثر عجز حروفي عن التحرر من قيود العاطفة، إنه ألم من نوع أخر، ألم الرغبة في الانعتاق من الكلمات المختنقة بداخلك، ألم سرمدي لا يغادرك إلا عندما تسيل نفسك على ورقات، ربما تطرحها بعد ذاك في أقرب سلة للمهملات!

كل ما أعرفه بعدما أحببتها وأحببت غيرها أني أحب الحب
هوه احنا اتخلقنل للألم وبس :(

bent ali يقول...

موجعة!!

Räumung wien يقول...


مدونة مميزة
كل تقدير واحترامى لكم ... :)

إرسال تعليق