الاثنين، 23 يوليو 2012

ثورة يوليو وثورة يناير.. تكامل أم اختلاف؟

nasser8هل الانخراط فى مناقشة الماضى مجدية؟

سؤال طرحته على نفسي بعدما كتبت بعض السطور في مقال عن ثورة يوليو بما لها وبما عليها.

وأظن أننا سننقسم ثلاث فرق، فرقة مع وفرقة ضد وفرقة تحاول الوقوف على الخط الفاصل بين الانتماء والرفض.

أنا لست من جيل يوليو بطبيعة الحال، لكني ممن تأثروا بما فعلته ثورة يوليو، فمن منطلق المعادين لثورة يوليو، أو بتعبير أدق انقلاب يوليو، قضيت عمري كله إلا قليلاً تحت حكم عسكري فاشل، أدار مصر لثلاثين عاماً بمنطق العزبة، وكان منطق العزبة هو من منجزات ثورة يوليو.

ومن زاوية أخرى، انتقال أبي من الطبقة الفقيرة -جدا- إلى الطبقة المتوسطة يبقى من منجزات يوليو، بغض النظر عن سياسات السادات، أحد أبناء يوليو، في الاقتصاد، والتى تركت مصر على حافة الانهيار بعد سلسلة من الديون وفوائد الديون أغرق فيها السادات مصر.

إذن لتلك الثورة وجهتين، كالعملة، يمكن النظر إليها عبر إحداهما، ويمكن النظر إليها عبر كليهما، ولكن كيف ننظر إليها بدقة وإنصاف والتاريخ يكتبه المنتصرون فحسب، بينما المهزمون ينزون في ركن قصي من الحياة.

حركة التاريخ ليست دائرية ولا خطوط مستقيمة يمكن السير عبرها لنصل إلى نقطة الابتداء لننطلق منها، بأيهما تبدأ: منجزات العصر السابق أم إخفاقاته أم تنطلق من بدء الثورة مناقشاً ما لها وما عليها؟

إن الأساس الذي يمكن أن ننطلق منه هو المقارنة بين نظامي الحكم في عهد فاروق وناصر، وليس منجزات عصر كل منهما بطبيعة الحال، فترسيخ المبدأ أهم من مؤشرات البورصة ومدارس الفقراء.

كان النظام ملكياً يحكم فيه الملك، وثمة نظام برلماني هش، يمكن للملك أن يتلاعب به، كان حزب الوفد، حزب الباشاوات، هو المهيمن في ذلك التوقيت، رغم الصراعات التى دارت داخله.

جاء نظام يوليو ليهدم الملكية، ويؤسس لجمهورية ديمقراطية حديثة.

غير أن نظام يوليو قد اكتفى بإعلان الجمهورية دون الديمقراطية الحديثة، ورسخ عبد الناصر بعدما أقصى محمد نجيب عن المشهد السياسي لحكم الفرد المطلق، ربما لم تشهد مصر قبل عصر ناصر حكماً ديمقراطياً راسخاً، لكننا نحاكم ثورة بما أعلنت من أهداف لها تسعى إلى تحقيقها.

إن الثورة حينما تعلن عن نفسها فإنها ترفع مطالبها أولاً وتدعو الناس للالتفاف حولها لتحقيق المطالب، ومدى نجاح الثورة أو إخفاقها يتوقف، في الحقيقة، على ما تحقق من تلك المطالب.

في البدء كان من العسير محاكمة ثورة يوليو تبعاً لما تحقق من أهدافها، وذلك لما يسمى بالحرب على الثورة المضادة في ذلك التوقيت، لكن الحرب طالت وامتد أمدها حتى شملت من كانوا يوماً في صف يوليو، وزجت بالكثير من الإخوان واليساريين في سجونها ومعتقلاتها.

لن ننحرف كثيراً لنناقش قضية الحريات إبان نظام يوليو، لكن المجدى أن نعود إلى شكل الدولة، أعلنت الجمهورية، وخفتت المطالبة بالديمقراطية، ربما لظروف كثيرة، أهمها أن الرئيس الجديد بحاجة لفرصة لتثبيت أقدام الثورة وهدم النظام القديم.

انطلق الرئيس الجديد بثورية شديدة يحطم النظام القديم، ويؤسس لنظام جديد، بيد أن النظام الجديد في جوهره لم يختلف كثيراً عن النظام السابق له، سوى في بعض الشكليات التى لم يتأثر بها جوهر نظام الحكم.

أسس ناصر نظام حكم جمهوري فردي عسكري، رئيس عسكري يخلع ملابسه العسكرية ويعتلى منصب رئيس الجمهورية ليدير الدولة بذات المنطق الذي يدير به الجيش، الطاعة مقدمة على كل شئ، الولاء أهم من الكفاءة.

قلد ناصر المناصب المدنية لكثير من العسكريين، وانتشروا كالنار في الهشيم، وانتقل بعضهم من الطبقة المتوسطة للطبقة البرجوازية، وبهذا قامت ثورة يوليو باستبدال برجوازية الملك ببرجوازية العسكريين، وحصل اختلاط وتداخل بين البرجوازية القديمة والبرجوازية الجديدة عبر شبكة من التصاهر بين الطرفين.

ثم انشغل الرئيس الفرد بقضية التحرر الوطني ودعمها في مصر وخارجها، وهذا شئ نفخر به، وإنما ليس على حساب الحريات داخل الوطن. انقلب نظام يوليو ضد الجميع وصار كل صوت  يختلف مع الرئيس معادي للثورة، ويناهض قضية التحرر وعميل لللاستعمار.

كرّس ناصر لتخوين المعارضين، وأضحى الزج بهم في السجون عادة يمارسها نظامه بكل أريحية، دون التفات لأن القضية الأم هى تحرير الوطن لا تحرير النظام الذي يحكم الوطن.

إن شكل دولة يوليو يبدو هكذا، رئيس عسكري يحكم جمهورية مدنية عبر جهاز أمني قوي، يرفع راية التحرر الوطني وبعض الشعارات الاشتراكية، ثم لا مانع من استخدام الدين عند الحاجة، مع تخوين المعارضين للنظام والرمي بهم في السجون كلما ارتفع لهم صوت.

إن القضية الأساسية في الثورات هى قلب نظام الحكم والإتيان بنظام حكم جديد يخالف النظام القديم، ليس المطلوب أبداً أن يأتى نظاماً جديداً فحسب، بل المهم والأهم أن يكون نظاماً مخالفاً لما سبقه في النهج والمنهج.

لكن نظام يوليو بكل منجزاته كرّس لنظام ملكي من نوع جديد، نظام الأب فيه هو الجيش والأبناء هم الضباط يتوارث بعضهم مصر كلما غاب الآخر.

إن نظام يوليو قد وضع الأساس لدولة مبارك، وامتدت هذه الدولة في خطوط مستقيمة تنحدر للأسفل عبر نظامي السادات ومبارك، وكان من الطبيعي أن تشتعل ثورة جديدة للتخلص من نظام يوليو، والثورة الجديدة بطبيعة الحال تأتى لتقلب النظام القديم وتستبدل نظاماً جديداً بدلاً منه.

لا يمكن بطبيعة الحال أن تكون ثورة يناير امتداداً لثورة يوليو، فيوليو قد جاء بالعسكريين إلى نظام الحكم، وأسس دولة الولاء فيها أهم من الكفاءة، والاستبداد فيها خير من الديمقراطية، فالرئيس هو الأب والراعى للشعب، والشعب قاصر عليه أن يستمع لما يراه الرئيس مادام الرئيس وطنياً مخلصاً ولو كان ذلك على حساب الحريات.

إن الشعب لا يريد نظاماً يطعمه ويشربه، إن الشعب يريد وطناً لا حظيرة، يريد وطناً يعارض فيه الرئيس، وطناً لا يخشى فيه أمن الدولة، وطناً لا يقتل أبناءه بالمدرعات، وطناً لا يسرق قوت الشعب لصالح الجنرالات.

إنني باعتباري أحد أبناء يناير لا يمكن أن أقف إلى جانب نظام يوليو ولا يمكن أن أنكر منجزاته، لكن تلك المنجزات ضاعت عبر النظام الذي كرسته ثورة يوليو. كان طبيعياً أن تصل مصر لما وصلت إليه في عهد مبارك، فإن آلة الاستبداد لا تنتج وطناً حتى ولو كانت بدايتها تبدو مبشرة.

لأن ثورة يوليو جعلت نظام الحكم فردي عسكري، فكان من المنتظر أن تتغير السياسات تبعاً لتغير الرئيس، وبهذا يتحمل نظام يوليو ما أقدم عليه السادات وخلفه مبارك.

نظام الحكم هو الأهم لأنه المنتج لكل ما نراه على الأرض في الواقع، ولأن نظام يوليو نظام فردي عسكري استبدادي فلا يمكن إلا أن أنحاز إلى المعادين له.


Share/Bookmark

الرجل الودود عمر سليمان واللواء السلفي

عمر-سليمانعلّق رون سوسكيند في مجلة التايمز الأمريكية على وفاة رئيس المخابرات المصرية السابق عمر سليمان قائلاً:”إنه رجل خير وودود، إنه يعذب الناس الذين لا يعرفهم فقط”. وفي سياق آخر نشرت جريدة البديل الإلكترونية خبراً عن حزب الأصالة السلفي وابتدأت الخبر “وصف اللواء عادل عفيفي, رئيس حزب الأصالة السلفي, ومساعد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي” وقد استوقفتني العبارتان كثيراً وتأملتهما لشئ لم أكن أعلمه، تحمل هاتان العبارات دلالة هامة ربما يعسر استجلائها للوهلة الأولى، لكن، مع المزيد من التفكير ربما يلوح لك رابطاً قوياً بين العبارتين.

العبارة الأولى تحمل معنى السخرية من الشخصية الأكثر غموضاً في العقود الماضية، الرجل الذي لم نسمع له صوتاً طوال خدمته في المخابرات، إذ كيف يجتمع معنى الخيّر والود مع التعذيب؟ ويتجلى أكثر دلالة العبارتين في العبارة الثانية حيث تصف رئيس حزب الأصالة “السلفي” بالمساعد الأسبق لوزير الداخلية حبيب العادلي.

وهنا تكمن دلالة ربما لا نلتفت إليها عند القراءة العابرة للخبرين، ذلك أن استعمال معانى أخلاقية\دينية في وصف بعض الشخصيات أو الأفعال مع ظهور أفعال\أوصاف لتلك الشخصيات على النقيض تماماً من الأفعال الأخلاقية\ الدينية يحمل ازدواجية لطالما حارت العقول في فك اللغز حولها.

إن العبارة الأولى بما لها من دلالة ساخرة استخدمها الكاتب،والعبارة الثانية بواقعها المؤلم، تعرى مجتمع “التدين الكاذب”، المجتمع الذي يغرق إلى أذنيه في دركات الاستبداد والاستعباد مطلقاً أوصافاً أخلاقية ومستعملاً مظاهر دينية لترسيخ الاستبداد وتعميق معنى السلطوية عبر تغليف الاستبداد والسلطوية بمسحة دينية.

عمر سليمان ذلك الرجل الذي وصفته مجلة النيوريوك تايمز بأنه رجل المخابرات القوى الذي تعرفه العامة، لكنها لا تعرف عنه الكثير، فالرجل عاش حياته محاطاً بغموضٍ شديد، حتى واقعة اغتياله أيام الثورة لفها الغموض وأحاطت بها الكثير من الشكوك، والرجل نفسه صمت ولم يفصح عن حقيقة العملية، وكأنه كان منتشياً بهالة الغموض التى تظله أينما حلّ.

عمر سليمان اشتهر في الأوساط السياسية برجل العلاقات المصرية-الاسرائيلية، لم يكن أحداً غيره يأمن له مبارك لإدارة أي ملف يخص تلك العلاقات، ربما لما قيل عنه أنه كان يحمل نفس العداء الذي يحمله مبارك للحركة الإسلامية في مصر وفلسطين، وبالارتباط الروحي القائم بين الحركتين.

عمل سليمان على إفشال المفاوضات بين فتح وحماس، وكان الذراع المصرية\الإسرائيلية لإفشال أي مفاوضات حقيقية بين طرفي الصراع في فلسطين، بل كان الرجل أقرب إلى طرف السلطة الفلسطينية المرضي عنها من الجانب الإسرائيلي.

ولطالما حمل الرجل حماساً شديداً لتطويق قطاع غزة، وحصار الحدود مع مصر، لا كما كان يشاع حماية للأمن القومي المصري، فعدد القتلى في ذلك التوقيت من الجنود المصريين على يد الإسرائيليين، دون رد واضح من القاهرة، يقودنا حتماً إلى حالة الانبطاح أمام الكيان الصهيوني.

وفي الشأن الفلسطيني أيضاً، عُرف عن الرجل أنه كان يشرف بنفسه على عمليات تعذيب الفلسطنيين المعتقلين في مصر، كما أنه عمل في برنامج تعذيب المطلوبين للولايات المتحدة الأمريكية، وقد أسلفنا نشر تعليق نيويورك تايمز على التعذيب بالوكالة الذي كان يديره سليمان عبر المخابرات المصرية.

ويبدو في موقف سليمان من طلب الولايات المتحدة عينة من محمد الظواهري شقيق أيمن الظواهري القيادي بالقاعدة مدى “كفاءة” الرجل في أداء عمله، حيث عرض على الولايات المتحدة إرسال “ذراع” محمد الظواهري كاملة لأخذ العينة اللازمة من الـ  (DNA).

كان عمر سليمان رجلاً “مخلصاً” و “جاداً” في عمله، لم يكن يكترث بأي شئ سوى أداء عمله على أكمل وجه، ولو كان العمل يقتضى تعذيب الآلاف وسحق المعارضين وبث الفرقة بين الفلسطنيين لبث الطمأنينة داخل أصدقاءه في الكيان الصهيوني.

ربما يستغرب استخدامي لكلمات مثل “مخلص” و”جاد” في وصف الرجل، لكن تلك الازدواجية هى التى نغرق فيها منذ وفاة الرجل، فالبعض يدعونا للترحم عليها والدعاء له بالرقود في سلام، لأن هذا موقف إنساني بغض النظر عما اقترفته يد الرجل من جرائم كان يجب أن يحاسب عليها، لا أن يخرج بكل وقاحة معلناً ترشحه لرئاسة الجمهورية.

إن الحماس الذي قوبل به ترشح سليمان من قبل الكثير من الدوائر الاجتماعية يشى بشئ مما أتعرض له الآن، ازدواجية المجتمع إزاء مجرم، غلف البعض جرائمه بإطار أخلاقي من نوعية أنه كان مخلصاً وجاداْ وكان عقله دائماً مشغولاً بحماية الامن القومي المصري، متجاهلاً أنه كان يحمى الامن القومي من المصريين ويحمى الحدود من الفلسطنيين، بينما يدير ظهره للدبابة الإسرائيلية غاضاً طرفه عما ترتكبه من جرائم على الحدود.

وعلى الطرف الأخر يقف المساعد الأسبق لوزير الداخلية المدان بقتل المتظاهرين ملوحاً بسيف الدين، وكأنه الحامى للدين بعد مئات السنين، ومع أن سيادة اللواء كان يقف إلى جوار القاتل حبيب العادلي إلا أن سيادة اللواء بعدما أطلق لحيته، ووضع نفسه في إطار التدين تناسى كل ما اقترفه الوزير وهو إلى جواره وخرج شاهراً سيف حماية الدين.

إن سيادة اللواء الذي ظل صامتاً طوال فترة خدمته مع الوزير القاتل خرج ليؤسس حزباً دينياً يكرس الفكر السلفي الذي كان الكثير من أعضاءه في سجون حبيب العادلي، بينما سيادة اللواء يجلس في مكتبه يلقى بالتحية العسكرية للوزير القاتل، ورغم ذلك لم تثر أي نوازع دينية في سيادة اللواء.

التدين الكاذب وحده يقف وراء صمت اللواء السلفي عن جرائم العادلي، فبعض الصلاة ولحية بعد المعاش ربما تمحو تاريخ طويل من تكريس الاستبداد عبر ألة أمنية كان اللواء السلفي أحد تروسها التى تعمل بكفاءة لمنع الناس من تنفس الحرية أو التطلع إلى العدل.

إن الدعاء بالرحمة لسليمان، أو الصلاة عليه، يبقى موقفاً شخصياً، لكنه يحمل دلالة هامة في حالة الازدواجية التى يعانى منها الكثيرون في المجتمع، حيث أن مقاصد الدين تغيب وراء مظاهر فارغة، وتبقى اللحية والجلباب أهم من العدل والحرية.

إننا بصدد ظاهرة يجب التوقف عندها كثيراً، والتأمل في مظاهرها في المجتمع المصري، قبل أن ترسخ آلة الاستبداد الديني مظاهر التدين الكاذب لتصبح صلاة الرئيس أهم من عدله.


Share/Bookmark

الخميس، 12 يوليو 2012

مغالطات في مقال عبد الرحمن يوسف

arahman كتب الأستاذ عبد الرحمن يوسف مقالاً في جريدة اليوم السابع تحت عنوان “أفكار خاطئة عن حرية الاعتقاد” وعرض فيه رأيه في  اعتناق بعض الأديان والمذاهب التى تخالف المزاج العام المصري، ولأن الأستاذ عبد الرحمن له مكانته كشاعر وكشريك من شركاء الميدان آثرت أن أناقش ماكتب في حدود ماتسمح به حرية الرأي دون تجريح أو تسفيه لرأي أو لشخص.

بداية اتفق الكاتب أن حرية الاعتقاد مكفولة وفقا للقانون وحسبما جاء به الشرع، وهنا نقطة تلاق وركيزة ننطلق منها لنناقش ماكتب موفرين الجهد الكثير لإقناع الأستاذ بماهية حرية الاعتقاد. 

الحرية أولاً هى التحرر من كل القيود والأغلال التى ُتفرض على الإنسان من خارجه، حيث أن الحرية الحقيقية هى التحديد الشخصي بمعنى أن يكون القرار والاختيار نابعان من داخل الشخص لا مفروضان عليه، وفي حرية الاعتقاد يصير الأمر أكثر تعقيداً وتشدداً، ذلك أن أمور الإيمان هى حاجة شخصية بحتة لا يمكن لأي كائن أن يتدخل فيها أو يفرضها على إنسان بأي صورة من الصور.

وذلك لأن فرض أمور الإيمان على الأشخاص يحيل هؤلاء الأشخاص من مؤمنين بعقيدة -وإن كانت تبدو لي خاطئة- إلى منافقين يظهرون خلاف مايبطنون درءً لبطش الدولة أو المجتمع.
ولأن الله قد ترك لنا مساحة واسعة في اختيار مانعتقد وأرجأ أمر الحساب إلى القيامة فلا ينبغى لبشر أن ينصب من نفسه إلهاً أخر يفرض على الناس ديناً أو مذهباً  تحت زعم حماية الدين أو حتى حماية الأمن القومي.

يقول الأستاذ عبد الرحمن أن البعض يخلط بين حرية الاعتقاد وحرية التبشير، وبدا لي من سطوره أنه يرفض حرية الاعتقاد مادام يلازمها حق التبشير، والأمر هنا لا يبدو خلطاً من الأستاذ بل يبدو خلطاً عليه، فقد اختلط عليه الحق في الاعتقاد والحق في التعبير والبون بينها شاسع.

فإذا كان الكاتب يؤمن بحق الاعتقاد فعليه أن يؤمن بحق الإنسان في عبادة الشمس والقمر والنجوم، أما الحق في الدعوة إلى المعتقد فتلك مرحلة أخرى تندرج تحت الحق في التعبير عن الأفكار والأراء والمعتقدات، ولا أظن أبداً أن كاتباً وشاعراً عارض ديكتاتوراً يمكن أن يقيد حرية التعبير تحت أي مسمى من المسميات الهلامية التى تشبه فقاعات الأنظمة المستبدة لضمان بقاءها.

ذلك أن باب الأغلال إذا فتح ضماناً لحماية بعض المقدسات سواء دينية أو سياسية فإنه لن يغلق حتى يلتهم كل مايقع في طريقه من حريات، فيصبح المعارض خائناً لأنه يمس أمن الدولة المتمثل في رئيس الدولة الذي يمثل الدولة، ويصبح القائل برأي مخالف لرأي المؤسسة الدينية الرسمية مارقا من الدين لأنه أهان المؤسسة التى تحمل الرسالة الدينية.

وهكذا ننتقل رويداً رويداً تحت مسمى حماية الأمن القومي أو حماية المقدسات الدينية أو الحفاظ على النسيج الوطني إلى العصور الوسطى لنجد رجالاً يسجنون ويقتلون لأن بعضهم قال بخلق القرآن وأخرين قالوا بآزليته!

إن الدولة المدنية -العلمانية- تكفل لكل إنسان الحق في المعتقد وكذلك الحق في التعبير عن الأفكار، ولا يمكن أن تكون الدولة مدنية ديمقراطية دون كفالة تلك الحقوق، فقد اتفقت الإنسانية فيما بينها على ضمانات أساسية لبقاء البشرية تضمنت ما سمي بالحقوق الأساسية وعلى رأسها الحق في الاعتقاد والحق في التعبير وحق المسكن والملبس وغيرها.

إن انتزاع حق من حقوق الإنسان حفاظاً على تربة الوطن من العبث بجيناتها يدفع بالوطن إلى هاوية الدولة المستبدة سواء بإطار ديني أو سياسي، حيث تخلق الدولة أصناماً لا يمكن المساس بها، ويصير المعارض لها إما خائناً أو كافراً.

يقول الكاتب: “حين يتحدث اليوم بعض الأشخاص عن حرية البعض فى اعتناق المذهب الشيعى، أو فى عبادة الشمس والقمر والنجوم... إلخ، نحن هنا لا نتحدث عن حرية الاعتقاد، بل نحن نتحدث فى صميم السياسة والأمن القومى المصرى”

وأقول إن من صميم السياسة والامن القومي المصرية حماية حق كل مصري في اعتناق ما يشاء من أديان ومذاهب بحيث تبقى مصر السماء التى تظل كل المصريين باختلاف معتقداتهم وأفكارهم، ولا ينفذ بعض من لا يحبون الخير لمصر من باب الأقليات المقهورة، ولك في السودان عبرة ياسيد عبد الرحمن.

ثم يضيف: “أغلق باب بيتك، واعبد ما شئت، واكفر بما شئت، ولكن من حق المجتمع والدولة أن تتخذ جميع الإجراءات حين تكتب مقالة، أو تنتج فيلما، أو تؤلف رواية، أو تبدع قصيدة، أو تؤسس حزبا..”
وهذا رأي لا يختلف عن رأي الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل في الفن، أغلق عليك بابك وارسم او اكتب أو غنى ماشئت ولكن لا تنشر ما أبدعت على الناس لأنه يمس المزاج العام المتدين بطبيعته.
وقد أسلفت لو فتح هذا الباب على مصراعيه لأندفعنا إلى هاوية تفكيك الحريات لصالح استبداد قلة حاكمة أو رأي عام ليس بالضرورة صحيحاً.

ولست بصدد تذكير الأستاذ بما دار بين الرسول والمشركين من حوارات ومناظرات تندرج بالتعريفات الحديثة تحت حرية نشر المعتقد، قد استنكر الله في كتابه على المشركين أنهم كان يصمون آذانهم عن سماع الرأي الأخر اعتقاداً منهم بصحة ماجاء به آبائهم، ووبخ الله المشركين لأنهم منعوا الرسول عن الجهر بالحق، رغم أنه لم يكن في ذلك التوقيت حقاً جلياً ظاهراً.

ثم يختم الأستاذ عبارته السابقة بجملة عجيبة حيث يقول: “المعتقد الدخيل على البلد” ولا أعرف في الدنيا بلداً لها معتقداً أصيلاً ومعتقداً دخيلاً فمصر انتقلت من الوثنية إلى التوحيد إلى المسيحية إلى الإسلام والمسيحية معاً ولم يقل أحداً بأن ثمة معتقد أصيل ومعتقد دخيل، فالمعتقد يبقى معتقداً دون حسابات سياسية تفرق بين الأصيل والدخيل.

ويذهب الأستاذ عبد الرحمن إلى التجربة الأفغانية مذكرنا بأنها كانت بلد هادئة وجميلة لولا بعض الشيوعيين والملحدين الذين اعتلوا سدة الحكم وفرضوا تقدميتهم على الناس فاختلت الدولة حتى أضحت معقل طالبان !

وليكن الأستاذ رحب الصدر ويتقبل أن نقول له لقد أخطأت في الدليل وفي استنباط الحق من بين ثناياه، فالتجربة الأفغانية لم تفشل بسبب حكم الملاحدة والشيوعيين بل أفسدها تيار معين أراد فرض نمط معين من الحياة على الناس، وأخذ بالبلاد إلى العصور الوسطى ظناً منه أنه يحمى الدين من براثن الشيوعية والإلحاد.

إن القضية هى في كلمة “فرض” سواء كان المفروض شيوعية أو إسلامية أو غيرها، إن قضيتنا التى ندافع عنها ونناقش فيها الكاتب هى حرية الناس في الاختيار، ولعل مادلل بها الكاتب يقف في صفنا ولا يدعم رأي الكاتب.

وأنتقل مع الأستاذ إلى مطالبته الدولة بالتدخل في أمر التبشير، لحماية البلاد والعباد من الاخطاء الخارجية التى تتهددها عبر المذاهب “الدخيلة” ماهو الدور المنوط بالدولة القيام به إزاء التبشير؟ هل تمنع الدولة التبشير تماماً وتندرج الدعوة الإسلامية تحت مظلة المنع ؟ هل تسمع الدولة للأقباط الأرثوذكس بالتبشير لأن دينهم ليس “دخيلاً” على الوطن ؟ هل تختار الدولة مذاهب معينة وأديان معينة تسمح لها بالتبشير وتحجب البعض الاخر ؟

إنني لازالت في حيرة مذ قرأت ماكتب الأستاذ، ولا أعرف كيف يمكن لكاتب وشاعر أن ينحو هذا المنحى في مطالبة الدولة بتقييد الحق في التعبير عن المعتقد، وكيف ينادى بتدخل الدولة في أمر من الامور الشخصية، وهل يسمح الأستاذ بتدخل الدولة في منع أنماط الملابس الغربية لحماية نسيج الوطن من العولمة والعلمنة الغربية ؟ وهل يرضى الأستاذ أن تفرض الدولة لغة معينة للكتابة والقراءة على عموم المتدينين لصيانة لغة الدولة ؟ 

إن هذا الرأي -كما أسلفت- يقود مصر إلى حافة الاستبداد ويجعل من الدولة إلها آخر يحاكم البشر فيما يعتقدون وفيما ينشرون، وأرى أن الأستاذ قد جنح برأيه إلى الرأي السلفي في دور الدولة، وهذا لايعنى أن الأستاذ قد تسلف، فلست من الذين يؤمنون بالثنائيات الناشئة عن النظرة الاحادية للأمور.

وأخيراً أذكر الأستاذ بما قاله الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه “نقد الخطاب الديني”: لدينا مشكلة هي أننا باستمرار خائفون على الإيمان، كأن ما لدينا هو إيمان معلول يحتاج إلى حماية. الإيمان لا يحتاج إلى حماية لأنه الاقتناع.


Share/Bookmark