من العسير جدَّا أن تتعرض لآية في كتاب الله وتستنبط منها حكماً قد يكون صادماً للبعض، وهذا ما وقع مع الآية الرابعة من سورة الطلاق، حينما استنبط منها البعض أو ربما الكثيرون جواز تزويج القاصرات أو بتعبير آخر الأطفال، لقوله تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ)، فدل ذلك على أن مَنْ لم يبلغ الحلم يسمى طفلاً، ولذا سأعمم لفظ زواج الأطفال في ثنايا المقال.
كلامُ في تفسيرِ الآية:
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)
تفسير كتاب الله ليس بالأمر اليسير على أي إنسان، بل هو بحاجة لجمع علوم شتى وإدراك طرائق شتى لاستخراج المعانى من الألفاظ، ولذلك اعتنى أهل العلم بكتاب الله وتدارسوه ووضع له القواعد والعلوم لفهم معانيه.
أول العلوم المنوط بها تفسير القرآن هو علم اللغة ويليه أسباب النزول لأنها تجعلك تدرك السياق التاريخي التى وردت فيه الآية ولهذا فضل كبير في فهم العام والخاص في القرآن.
ولهذا فإنني سأبحث أولاً في السياق التاريخي للآية الرابعة من سورة الطلاق، لأن الظرف التاريخي قد يجلى شيئاً غامضاً يوضح معنى الآية.
أخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه والحاكم وغيرهم عن أُبي بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من النساء قالوا: قد بقي عدد من النساء لم يذكرن الصغار والكبار (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ) فأنزلت: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ). (ص269، لباب النزول في أسباب النزول، السيوطي)
تحمل تلك الرواية دلالة هامة أبنى عليها مقالي في الآية، حيث أن بعض النسوة اشتكين لرسول الله من ورود آية في عدة المرأة الحائض ولم ترد في غيرها، ثم حددوا غير التى تحيض وقالوا الصغيرة والكبيرة الآيسة والحامل.
نفهم من هذا السياق أن الآية جاءت في معرض الجواب عن سؤال نسوة هم على ذاك الحال، أي أن فيهم الآيسة والطفلة والحامل، وعلى هذا فإن الآية جاءت جواباً على واقعاً بالفعل، ولم تجئ لتحدد حالات الزواج المقبولة شرعاً، لا سيما وقد حدد القرآن سن التصرف في المال والنفس بحد النكاح\ البلوغ كما في آية سورة النساء (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)
قد يقول قائل إن سكوت الله في هذا المحل دون ذكر نهى أو زجر أو تقبيح يعنى اقرار الله لهذه الزيجات، وأقول إن الاقرار دلالة ضمنية تتأرجح من عقل إلى عقل، والدلالة الضمنية ليست قطعية الدلالة بل هى مظنة العقول، والعقول تتفاوت في استخراج المضامين من الألفاظ.
ولما كان الأصل في النكاح\الوطء التحريم، قال ابن حجر\فتح البارى: ((الأصل في الأبضاع (الفروج , وهو جمع بضع وهو الفرج , كناية عن النساء والنكاح ) التحريم إلا ما دل عليه الدليل.)) فيلزم توافر دليل قطعي الدلالة على تحليل ما حرم الله. ولا يتم الحِلُ هنا بمجرد السكوت عن بيان الحكم.
فإن قال قائلهم قلت قولاً لم يسبقك به أحداً والقرآن أجاز زواج الأطفال أنقل إليه الآتى: يقول الإمام العلامة شيخُ الشافعية علي بن محمد بن علي الطبري الشهير بإِلْـكِيا الـهَرَّاسي: ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة, ولم يكن في كتاب الله دلالة على جواز تزويج الصغيرة, لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز, وهو مذهب الأصم. (1\314، أحكام القرآن)
فإن قال قائلاً منهم كيف يتصور أن يكون للطفلة عدة وهى لم تتزوج؟
يجيب الإمام العلامة إِلْـكِيا الـهَرَّاسي: النكاح في حق الصغيرة، إن لم يتصور، فالوطأ الموجب للعدة متصور، وليس في القرآن ذكر الطلاق في حق الصغيرة، إنما فيه ذكر العدة، والعدة تجب بالوطء، والوطء متصور في النكاح الفاسد. (1\315، أحكام القرآن)
ومن ثمّ يُتصور أن أصل النكاح فاسد، لكن الله قد وضع قواعد الخروج من هذا النكاح عبر تحديد عدة الطفلة الموطوءة.
ويمكن تقديم تصور آخر عبر التفسير اللغوي أن الكلام في الآية عن المرأة المريضة التى بلغت ولم تحض وهى متزوجة لا سيما وقد ورد لفظ (نِسَائِكُمْ) في بداية الآية (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) والنساء تطلق عادة على البالغات كما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) وليس ثمة خلاف على أن المرأة المكلفة بالحجاب هى المرأة البالغة، فإن البلوغ من شروط التكليف.
ومن ثم فإن لفظة (نِسَائِكُمْ) قد يؤكد معنى الآية في أنها النسوة اللائي لم يحضن لأسباب مرضية وليست الطفلة كما استنبط المفسرون ذلك.
كلامُ في النص الشارح (السنة):
قال رسول الله (لا تنكح اليتيمة حتى تُستأمر) وحقيقة اسم اليتيمة للصغيرة لغة، قال النبي: ( لا يُتم بعد الحُلُم) ولذلك نهى النبى عن إنكاح اليتيمة ومده إلى غاية الاسئتمار، ولا تصير أهلا للاستئمار إلا بعد البلوغ، كما ورد في قوله تعالى: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فيتضمن البلوغ كأنه قال: حتى تبلغ وتستأمر.
كلامُ في الإجماع:
نُقل الإجماع على جواز تزويج الطفلة وممن نقل الإجماع: الإمام أحمد , ومحمد بن نصر المروزي ، وابن المنذر , , وابن عبدالبر , والباجي ، وابن العربي , والنووي , وابن حجر وغيرهم.
يقول الشريف د.حاتم العوني: الإجماع منقوضٌ بخلاف قديم , فلا يصح , فقد منع من تزويج الصغيرة عددٌ من أهل العلم , منهم الإمام التابعي الفقيه الجليل عبدالله بن شُبرمة فقيه العراق وقاضي الكوفة (ت144هـ) , وفقيه البصرة التابعي الإمام عثمان بن مسلم البَـتِّي (ت143هـ).
حكى ابن حزم عن ابنُ شبرمة: لا يجوز إنكاح الأب ابنته الصغيرة حتى تبلغ وتأذنَ، ورأي أمر عائشة رضى الله عنها خصوصاً للنبى، كالموهوبة، ونكاح أكثر من أربع. (ص 1600، المحلى لابن حزم)
(النص منقول من عندي ولم يرد على لسان الشيخ إنما أوردته للتدليل على صحة كلام الشيخ).
وقال أيضاً: فليس بإجماعٍ ما وقع فيه مثلُ هذا الاختلافِ القديم , وتَشْذِيذُ أقوالِ أهل العلم المخالفةِ لقول الأكثرين لا يكون بغير ضابط ؛ ولا يكون بمجرد دعوى الإجماع المنقوضة بخلاف من خالف ؛ لأن خلافهم يدل على عدم وقوع الإجماع. انتهى كلامه
وقد رأيت أن جل العلماء الذين حكوا الإجماع قد اعتمدوا على رواية البخاري في سن زواج السيدة عائشة، ولهذا أحيلكم إلى بحث الأستاذ إسلام البحيري بشأن سن زواجها.
أقوال أهل العلم:
يقول الشيخ ابن عثيمين (من أئمة السلفيين) في الشرح الممتع (12/57-58) : «من دون تسع السنين ليس لها إذن معتبر؛ لأنها ما تعرف عن النكاح شيئًا ، وقد تأذن وهي تدري ، أو لا تأذن ؛ لأنها لا تدري ، فليس لها إذن معتبر ، ولكن هل يجوز لأبيها أن يزوجها في هذه الحال نقول : الأصل عدم الجواز ؛« لقول النبي لا تنكح البكر حتى تستأذن» ، وهذه بكر , فلا نزوجها حتى تبلغ السن الذي تكون فيه أهلاً للاستئذان ، ثم تُستأذن .
وقال ابن عثيمين في شرحه على البخاري , معلقا على الاستدلال بالآية ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾: الشاهد في هذا الباب قوله تعالى ﴿وَالَّلائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾، يعني : اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر ، ولا عدة إلا بعد نكاح ، والتي لم تحض على حسب استدلال البخاري (رحمه الله تعالى) هي التي لم تبلغ ، أي: صغيرة. ولكن قد يقال : إن البلوغ ليس علامته الحيض فقط ، فقد تبلغ بخمس عشرة سنة وتُزوَّج ، ولا يأتيها الحيض ، فهذه عدتها ثلاثة أشهر ، فلهذا استدلال البخاري فيه نظر ؛ لأنه ما يظهر لنا أنها تختص بمن لا تحيض ، فإنه يمكن أن تبلغ بتمام خمس عشرة ، بالإنبات ، أو بالإنزال كما هو معروف.
ثم استطرد رحمه الله: فالمسألة عندي أن منعها أحسن ، وإن كان بعض العلماء حكى الإجماعَ على جواز تزويج الرجل ابنته التي هي دون البلوغ ، ولا يعتبر لها إذن ، لأنها ما تعرف مصالحها .
فالذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر ، أن يُمنع الأبُ من تزويج ابنته مطلقا ، حتى تبلغ وتُستأذن ، وكم من امرأة زوّجها أبوها بغير رضاها ، فلما عرفت وأتعبها زوجها قالت لأهلها : إما أن تفكوني من هذا الرجل ، وإلا أحرقت نفسي ، وهذا كثير ما يقع ، لأنهم لا يراعون مصلحة البنت ، وإنما يراعون مصلحة أنفسهم فقط ، فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعين ، ولكل وقت حكمه .
يقول الإمام الطاهر بن عاشور: بلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح. (التحرير والتنوير)
المصادر:
التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور
الشرح الممتع، شرح البخاري، ابن عثيمين
المحلى، ابن حزم
أحكام القرآن، الكيا الهراسي
أسباب النزول، السيوطي
البخاري وعليه شرحه المسمى فتح البارى، ابن حجر
مقالات متفرقة