حدث ذلك يوم الثلاثاء الدامي ..
هناك في شارع محمد محمود، عند السابعة صباحا، حيث تدور رحى المعركة بين الثوار وقوات الأمن المركزى، في إحدى الشوارع الجانبية راح يحتمى، ويريح قلبه المثقل، فالمعركة مشتعلة منذ مايزيد على ثماني ساعات ..
كانا عائدين من عند وزارة الداخلية، وبدا أنهما منهكين، يكسو وجههما تراب كثيف. يرتديان زيهما الأسود الكئيب، الذي يعرفه جيدا، تحركا نحوه، وأمسكا به، كانت يدهما قوية رغم الإنهاك البادى عليهما، كانا يجذبانه بعنف وكأنهما ينتقمان من شيء ما في هذا الشاب ..
ساروا جميعا إلى وزارة الداخلية، كان معهما مستسلما تماما، فهو لم يقترف إثما يجعله يخشاهم، ربما دارت برأسه في تلك اللحظات أسئلة كثيرة، لكن ماأعرفه أنه لم يكن يخشاهم، ولم يشعر إزائهما إلا بازدراء مسكون بالشفقة ..
عند باب وزارة الداخلية استقبله ضابط ضخم البنيان، قوى، بدا غاضبا، نظر إليه وسأله: إنت كنت بتعمل إيه ؟
بصوت خفيض، رد عليه: كنت بغطى الأحداث
- إنت صحفي يلا ؟
- لا أنا صحفي مستقل .
- مستقل مين يابن الوسخة .
جذبه بعنف، بل كان يجره كما يجر الجزار ذبيحته، إلى داخل سلخانة الداخلية، وهناك نزع عنه العساكر "التي شيرت" الذي يرتديه وقيدوه به من الخلف، وهددوه بأنهم سيغتصبونه ويصورونه، وانهالوا عليه باللكمات والصفعات والركلات، حاول أن يصد ضرباتهم، لكن جسده الضعيف لم يحتمل ضرباتهم، فخر أمامهم واستسلم لضرباتهم، لم تكن ضرباتهم وحدها التى توجعه، فشتائمهم كانت أشد قسوة، وأكثر انتقاما ..
وبينما هم منهمكون في انتهاك آدميته، نظر إليه الضابط ذات الجسد الضخم، وأمسك بيده، وكان صاحبنا يرتدى حظاظة بيضاء، فقال له الضابط: إنت من بتوع الألتراس يلا ؟
وبصوت متهدج، منهك، متعب، قال له: لا
يبقى انت ماسوني يابن القحبة .
ولم يتوقف الضابط عن سخريته من الشاب الضحية، بل راح يسخر من الثورة، ويقول له بضحكات يملؤها الانتقام: ثورة ايه يا.. أمك ، إحنا أسيادكم والجيش معانا ..
ثم انصرف الضابط، وجاءت مجموعة أخرى من الضباط الصغار ومعهم مجموعة من العساكر وبدأت رحلة جديدة من الضرب والشتائم. في ذلك الوقت كان ينضم مجموعة من الشباب لصاحبنا يتلقون الركلات والصفعات واللكمات والشتائم ..
بعدما انتهوا من مارثون التعذيب، جمعوا الشباب وتحركوا بهم نحو عربتين يقفان خارج وزارة الداخلية، وكدسوا الشباب بداخلهم، وتحركت السيارتان إلى قسم عابدين، وهناك تلقوا وابل من الشتائم مع مزيج من الضرب، وعلى إثر الضربات المتلاحقة سقط شاب في السادسة عشر من عمره مغشيا عليه، فلم ترحمه الذئاب الجائعة، إنما اراحوا يضربونه ويركلونه ظنا منهم أنه يدعى !
كانت المحاضر قد أعدت، وكتب فيها ماأراد الضباط أن يكتبوا، واختاروا لكل شاب تهمة مناسبة، فهذا كدّر الأمن العام، وهذا اعتدى على الضباط، وهذا كسر العساكر، وهذا ألقى زجاجات حارقة على الأمن المركزى ..
ثم كانت رحلة أخرى إلى النيابة العسكرية، وهناك كان لهم حظ من الضرب أيضا على يد عبود ووهدان، وهما عسكريان غلاظ شداد لايعصون ضباطهم ماأمروهم ويفعلون مايؤمرن !
وبسرعة عجيبة، تم التحقيق مع الشباب، بغير محاميين يحضرون معهم التحقيقات، عذرا لقد ظلمتهم، كان ثمة كارنيه لإحدى المحاميات حضر معهم التحقيقات، والعجيب أن المحامية صاحبة الكارنيه وقعت على المحاضر دون أن يراها الشباب !
عندئذ انتهت مسرحية المحاضر والتحقيقات الوهمية، وبدأت رحلة عذاب جديدة، الترحيل إلى السجن الحربي، ماأدراك ماالسجن الحربي، حيث لارحمة ولا عدل، دخل الشباب وقد تلقفهم الجنود بخراطيم الكهرباء والمواسير، وكانت معزوفة متناسقة الأداء من الجنود، يعرفون أين يضربون، وكيف يوجعون من غير ضرر جسيم ..
هذه نصف الحقيقة ..
النصف الأخر من الحقيقة هناك في زنزانة صغيرة في السجن الحربي، حيث يرقد صديقي لؤي نجاتي، المغرد الصغير، المتمرد الحر، الثائر الحالم ..
تعرفت على لؤي منذ عامٍ تقريباً، كان رقيقاً للغاية، مهذبا إلى أقصى حد . شاب صغير يدرس في أكاديمية الشروق، يعشق دراسته، يحب التعلم، دائم السؤال والنقاش ..
رغم صغر سنه، إلا أنني تعلمت منه الكثير، ربما يستغرب صديقي حين يقرأ كلماتي بعدما ينال حريته، لكنها الحقيقة ياصديقي الجميل ..لقد تعلمت منك أن أثور دون أن أخسر كل شئ ، تعلمت منك أن أعمل دون ضجيج ..
كان لؤي شابا عادياً، مهموماً ببلده، حزيناً على حالها، ليس له أيدولوجية يعتنقها، لكن الحرية كانت دينه الذى يدين به، كان يعشق الحرية، يحب مصر وكأنها فتاته التى ينتظرها بشغف ليمس يديها التى غابت عنه طويلا ..
أثناء الثورة التقيت به هناك في ميدان مصر الحرية، لم يكن هذا صديقي الذى عرفته منذ عام، كان فرحاً، يطير بجناحين فوق الميدان، كنت أشعر به وهو يحلق بعيداً عنا في الميدان، كانت حبيبته قريبة منه، كان يشعر بأن يديها التى غابت عنه طويلا تمس جسده الأن ..
بعدما عرفتُ باعتقال لؤي، تولاني ذهول، وصمت ، ولم يخرجنى من حالتى تلك إلا كلمات أخيه طاهر، حينما قال بأن لؤي مريض بالقلب !
لؤي الشاب الحر الجميل مريض بقلبه، إلا أن صدمتي قد تلاشت حينما تذكرت أن قلبه كان دوما مهموما بمصر، وقلب العاشق لايحتمل النظر إلى محبوبته وهى تحتضر !
هذا العاشق المتيم بمصر، ينام الأن في السجن الحربي يرنو إلى حبيبته من كوة صغيرة في زنزانة ضيقة ، بينما حسنى مبارك الذى حبس مصر طويلا يرقد في مستشفي شرم الشيخ كملك متوج تقاعد بعد رحلة طويلة ..
صديقي الحر المتمرد، اعذرني فلم أستطع أن أكتب عنك أكثر، فصورتك وابتسامتك الهادئة تلاحقني كلما كتبت، ولا أحتمل أكثر من ذلك .. عفوا صديقي فلست مثلك حراً !
2 التعليقات:
ربنا يفك اسره و اسر مصر من العسكر و نظام مبارك .
أكثر من رائع.
ربنا يفك كربه هو و اللى زيه إن شاء الله
إرسال تعليق