“وعرفتُ أن الليالى
مذاقُ قطرةٍ من العسل، على اللسان تتلاشى.
أنّ الأشياء، دوماً، مُهدًّدةُ بالغياب
وأنني، ذات يومٍ، كنتُ هنا، في هذا المكان.
حيث لن أكون، أبداً، مرةً أخرى.”
سركون بولص, عظمة أخرى لكلب القبيلة
كانت ليلة شديدة الظلمة، انزوى القمر فى حضن السماء، وضجت الشوارع بالناس، وغصت الحوانيت بأصحاب الأموال، بينما كنت أتسكع فى شوارع وسط البلد، أحدّق فى الوجوه، أتأمل المحال، أفتش فى عيون الناس عن شئ ما لاأعرف كنهه.
ساقتني قدماي إلى مقهى يبعد خطوات عن بناية نقابة الصحفيين، جلستُ معي فى ركن قصيّ أمارس هوايتي فى تأمل البشر، والنظر إلى وجوههم، لعلني أظفر بشئ ما مما أفتش عنه منذ سنواتٍ بعيدة.
جاءني فتى يافع يعمل فى المقهى تكسو وجهه سُمرة تنبئ عن أصله الصعيدي، وسألني عما أريد، طلبت قدحاً من القهوة، وحجراً من الشيشة.
لم ألبث إلا قليلاً حتى قدِمَ الفتى، ووضع القهوة أمامي، وحجر الشيشة إلى جوارى، وسألني عما إذا كنت محتاجاً لشئ أخر، فشكرته، وانصرف.
شربتُ على مهلٍ قهوتي، ونفثت دخانى، وبقيت أتابع سحب الدخان المنعقدة وهى تنحل رويداً رويداً حتى تتلاشى، وتغيب مع أشياءٍ كثيرة غابت ولا نعرف أين ذهبت.
على منضدة إلى جوارى كانا يهيمان فى سماء العشق، شاب وفتاة لايزالان فى مقتبل عمرها، بدت عليهما أحلام شباب الجامعة، الطفولية إلى حد بعيد، خيل إليّ أنهما يتفاوضان حول بعض قطع الأثاث فى شقتهما التى يحلمان بها، بدت الفتاة متشبثة برأيها، وبدا هو مفاوضاً جيداً، يداعب يديها، ويرمقها بنظراتٍ يملؤها الحنين إلى شفاهها.
أمام منضدتهما كان يجلس جمعُ من الشباب المتحمس، هكذا رأيتهم، صوتهم العالى، واحمرار وجه بعضهم فى وطيس المناقشات يشى بالثورة الرابضة فى الصدور، منتظرة لحظة الانفجار، ربما ثورة على الأباء أو العادات أو الفتيات، أو ربما يحدو بهم الجنون لأن يثوروا على الحكومة!
وإلى جوار منضدة الشباب الثائر، تحديداً المنضدة التى تقع أمامي، كانت تجلس بمفردها، ربما كانت تجلس معها مثلما أجلس معي، نفثت دخان شيشتها ورمقتني بنظرة، وتبسمتْ.
لم يكن غريباً علي ذاك الموقف، فقد خبرتُ وسط البلد لسنوات عديدة، وعِرفتُ خبايها، وسراديبها، وأروقة المزاج والمتعة فيها.
بنظرة الخبير العارف، ترقبت نظرتها التالية، وبسمتها الآتية. كانت لحظات الصيد ممتعة، فلذة الانتظار لايضاهيها إلا نشوة الظفر بالغنيمة. هكذا تعلمت فى مدرسة وسط البلد.
وفى لحظات الانتظار، التفت، وألقت نظرة مشوبة بابتسامة ساحرة، كانت تلك إشارة البدء، وسرعان مانهضت من مجلسي، وقصدت مجلسها، تبسمت لها وقلت بصوت الصائد الماكر: أقعد؟
رقصت عيناها فرحاً، وعلّت الابتسامة وجهها، وقالت وهى تلملم ذاتها: اتفضل.
تبودلت الكلمات المعتادة، وضحكنا وجلجلت ضحاكتنا، ثم نادت فتى المقهى، وطلبت الحساب، وكعادتهنّ تظاهرات بإخراج النقود، وكعادتي بادرت بدفع الحساب، وقمنا سوياً نترنح من الضحك.
وكأننا فى مسرحية نتقن أداء أدوراها، صار كل شئ كما يجب أن يكون، سِرنا سوياً إلى محل يبيع الخمور، يعرف رواد وسط البلد جيداً موقع ذاك المحل، بخطوات متناغمة، وكأن قدمينا تحفظ طريقنا عن ظهر قلب.
أحضرنا عدة زجاجات من البيرة، وزجاجة وايّن، وسألتها إن كانت لها رغبة بالحشيش، فزمّت شفتيها، وهزت رأسها رفضاً، وانتهينا إلى سيارتي، وقصدنا منزلي.
داخل الصالة الفسيحة، خلعت معطفها، وبدت تقاسيم جسدها فى ثوبها الضيق أشد جمالاً، لماذا يرتدون تلك المعاطف الحاجبة لنور أجسادهنّ؟
فتحنا زجاجات البيرة، وتجرعنا منها حتى ثملنا، ثمّ صبت لكل منا كأس من الوايّن، شربناه على عجلٍ، وتحركنا ببطئ إلى غرفة النوم.
كانت حركاتها تنبئ عن خبرة واسعة بعملها، تجردت من ثوبها، ومن ملابسها الداخلية، ووقفتْ عارية تماماً، وقالت:
تحب ألبس قميص نوم، ولا نخلص علطول.
ضحكت بصوت جنوني، كان ذلك تأثير الكحول، وقلت: تعالى تعالى.
لم تنتظر حتى أخلع ثيابي، اندفعت نحوي وأمطرتني قُبلاً، وأمطرتها أنا الأخر.
كان الأمر أشبه بمنافسة بين متصارعيّن، كلاهما يود الفتك بالأخر ليظفر بجائزة ما، ومع ذلك كانت مضاجعة ملئية بالدفء فى تلك الليلة الباردة، حتى أن تلك الرعدة المفقودة لدي منذ عهد بعيد، عادت إليّ تلك الليلة.
سائلتني وهى متكئة على السرير: ليه كنت بتبصلى وإحنا شغالين؟
كان من المحال فى تلك الليلة أن أوقف سيل الضحك، ضحكت كعادتي، وقلت بأنفاس لاهثة متعبة: لدي متعة لاتضاهيها إلا متعة الجنس، أعشق وجه النساء حين يتقلص من أوجاع المضاجعة.
انفلتت منها ضحكة رقيعة، وقالت: باين عليك مش عاتق، بس إيه ياخويا بتتكلم زي الناس الخنيقة كده ليه.
قلتُ: أنا معيد فى الجامعة، وبدّرس فلسفة للطلبة، وناشط بحركة الدفاع عن العمال والفلاحين.
قاطعتني بسرعة، وكأنها تتقيأ نفس سيجارتها، وقالت: يخربيتك إنت من الملاحيس بتوع السياسة.
وواصلت بسرعة لم تمنحني لحظة للجواب: تلاقيك لايف على بت من الحلوين اللى بيطلعوا فى التلفزيون ويقعدوا يرغوا فى السياسة.
كانت نبوءتها فى محلِها، كنت فى علاقة مع صديقة تعرفتُ عليها فى مظاهرة لدعم القضاة إبان أزمتهم مع النظام، وكانت علاقتنا متشابكة ويشوبها الارتباك، وبالكاد كنا نتفاهم فى مرات قليلة، عندما تتجرد من ثياب الناشطة، وثياب أخرى.
قطعت شرودي، وقالت: إنت باين عليك غرقان لشوشتك، بس أنا عايزة أسألك سؤال.
بفتور أجبتها: اسألي.
قالت، وقد ارتسمت الجدية على وجهها: إنت ترضى تتجوز واحدة زيي؟
اجتاحتني الدهشة، وترددت فى الجواب، فقاطعتني: لا طبعا، هو فى واحد يسيب صاحبته المثقفة، ويتجوز واحدة عاهرة.
بسرعة غريبة قلت لها: هى أيضا عاهرة لكنها تجيد الفلسفة.