أنا العاشق السئ الحظ.
محمود درويش
أحلق بجناحي نقطتي تاء التأنيث، نقطة فوق جناحي الأيمن وأخرى نائمة على جناحي الأيسر، لاتنفذ منهما واحدة لتوجع قلبي، اختارتا التحليق حولي، وأبيتا القرب من قلب جريح، عما قليل سيلفظ أنفاس أخر حب تعلق به.
كنت صريعاً لحب قديم، اخترت أن أكون عاشقاً قديماً لصديقة حرة، وحدها تملك الاختيار، وقلبي معلق بوثاق طرزته من خيوط شعرها.
تجلت لي على حافة كوخ ترتاح فيه الملائكة، أشارت بيدها، اقتربت، وكلما اقتربت تعلقتُ، وكلما تعلقتُ، أضاءت عيناها الكون، حتى غدوت أسيراً لنور عينيها.
مشيت على منحدر الصداقة خشية أن أسقط في هاوية الحب مرة أخرى، فضحكت الملائكة في كوخها وقالت: ما الصداقة إلا جسر يمر عليه الحبيب إلى قلب حبيبه.
غير أنني مشيت مغروراً بتجارب قديمة، راوغت كل عثرات الحب، قفزت من حُلم إلى حُلمٍ، ومن عين إلى عين، فهويت في بئر عينيها، كبلتني بابتسامة خفيفة تعرف طريقها إلى الفردوس بغير إذن إلهي.
لاحت منها تجليات إلهية ككلمات الرب تحمل أوجه عدة، خضت في تفسيرها، ولم أعبأ بضحايا الحب من قبلي، فسرتُ كلماتها بما يوافق هواي، والرب لا يحب من يمشى خلف هواه، وكانت هى تحب الرب، وكان هو يحبها، فألقى فيها كلمات لا تحمل سوى تفسير واحد: لاتقربي الشيطان، إنه كان عاشقاً قديماً.
كانت هي عقاب إلهي لأخريات مضوا، كانت جند إلهي ينفذ مشئية الرب في قلب جريح، كانت ظل لبطش الحياة بكل الطيبين.
وودت لو همست لها: سأكون طيباً لكي تحبيني لا ليحبني الرب، فنحن نخوض حروباً قديمة، كلانا لايُهزم فيها، وكلانا لا ينتصر، سأصير يوماً طيباً، وسيمنحنا الرب يوم حق الحب.
بعدما أوجعتني، فَهِمتُ، والفهم يوجع كما الحقيقة، فالرب حين أخفى جنوده كان يعلم أن الجندي الخفي أكثر إيلاماً من الجندي القاتل.
كان قلبي جندي مخلص لربه، سار خلفها، وسرتُ خلفه بغير إرادة مني. كانا قد عقدا اتفاقاً سرياً: تتجلى ابتسامتها فيعشقها، فأسير خلفه، فيوجعني، فيضحك الرب.
إنها قمة السخرية أن توجع بالشئ الذي يفرح الآخرين.
عجيب هو الحب، يفرح به الذين في قلوبهم مرض، بينما المخلصون يألمون كما لم يألم الذين عشقوا من قبلهم.
وحيد ولدتُ على غفلة من الدنيا، ووحيدُ سأغادر دنياها بغير التفاتة منها لترثيني بكلماتها، سأظل وحدي هنا، فأناي وحدها أخلصت لي في خضم معاركي مع الرب، ولم تأسف.
الآن سأعلن هزيمتي، سألقي بسلاحي الذي يوجعني، الآن أرفع رايتي بيضاء لأسلم قلبي لها، بضع سنتيمترات تكفي ليرقد هانئاً بإرضاء الرب وهزيمتي.
تراودني صورتها الآن، تقف ممسكة بورقة صغيرة، وبصوت واثق: أنعى إليكم قلباً لم يكن يوماً مخلصاً، أنعى إليكم حباً فاشلاً، أنعى إليكم عقلاً متمرداً، وجسداً غارقاً في لذة الحياة.
لن أبكى، ولن أضحك، سأتبسم لأني سمعتها، فصوتها مازال يوقظني من موت الحياة.
سأصفق لها من بين جمهورها، وأصرخ بكل مافي من قوة: سيدتي، أنا العاشق السئ الحظ.
1 التعليقات:
جميل بس مرة بقي تكتبلنا حاجة مبهجة كده مش كله فراق ووجع قلب ;-)
إرسال تعليق