فى زمان الإرهاب الفكري بات الكلام عن سلمية الثورة المصرية محفوفاً بالمخاطر، ومعبأ بالصراعات بين أنصار لاسلمية الثورة وسلمية الثورة، حتى غدت سلمية الثورة سُبة فى جبين من يعتنق السلمية كعلامة للثورة .
يروج أنصار العنف مذ انتهاء الثورة أو بالأحرى منذ انتهاء المد الثوري الأول وتنحية حسنى مبارك عن الحكم إلى نظرية العنف الثوري، وأنه لولا العنف مانجحت الثورة، وأن ثورتنا لم تكن ثورة سلمية بأية حال، ويدللون على ذلك بإحصائيات تظهر عدد القتلى من الشرطة المصرية والشهداء من الثوار على السواء.
وبالمقابل يحاول أنصار التغيير السلمي تصحيح المغالطات التى ترد فى استدلالات أهل العنف، غير أنهم يقابلون بموجات متتابعة من الهجوم التى تثنيهم عن الاستمرار فى الحوار . وذلك لأن دعاة العنف أعلى صوتاً وأشد تأثيراً، فعادة التطرف والغلو يكون أيسر من الاعتدال والقصد، فالأول طريقه مُعبد وميسر للمزايدة والمغالاة، بينما الثانى ملبد بسحب العلم والحكمة، وهما عسيران على كثير من أبناء جلدتنا .
ولكى يمكننا تحليل مغالطات دعاة العنف ينبغى أن نسترجع الثورة المصرية منذ مهدها حتى تنحية حسنى مبارك. بعد نجاح الثورة التونسية وهروب الرئيس المخلوع بن علي، تصاعدت دعوات عبر الإنترنت للثورة على الظلم والفساد والفقر فى مصر، ولم يدرك أحد وقتها أنه من الممكن أن تشتعل ثورة فى أرجاء مصر، بل إن الغالبية من النشطاء أنفسهم كانوا على درجة عالية من التشاؤم إزاء تظاهرات 25 يناير.
كانت أبرز الدعوات التى شاعت فى ذلك التوقيت، دعوة صفحة (كلنا خالد سعيد) للثورة على الفساد والتعذيب والظلم يوم عيد الشرطة، خاصة وأن الجو كان معبأ ضد الداخلية بعد حادثة كنيسة القديسين ومقتل الشهيد سيد بلال إثر التعذيب داخل مقر أمن الدولة بالأسكندرية.
يوماً فيوماً تعالت نبرات التفاؤل بعدما ذاعت الدعوة لتظاهرات 25 يناير، وانتشرت بشكل أوشى آنذاك بأن شيئاً ما يتحرك تحت الرماد. عندئذ تضاءلت نبرة التشاؤم، وارتفعت وتيرة التفاؤل بشكل مذهل، حتى كان يوم 25 يناير .
فى يوم 25 خرجت الناس إلى الشوارع بشكل سلمي، فكانت ذخيرتهم حناجرهم، وقنابلهم هى الأصوات الهادرة الصادرة من مئات الألوف، وكان موقف الشرطة آنذاك عجيب، فالشرطة لم تتدخل كعادتها لتفض التظاهرات بالوحشية المعهودة عليها، باستثناء بعض المناطق التى جرى فيها اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين.
استمر الناس فى التظاهر والهتاف ضد النظام، وسار الناس بشكل عفوي حتى بلغوا ميدان التحرير، وبدأ الناس يتجهون نحو الميدان بصوة تلقائية، انتهى الأمر وعشرات الألوف قد سكنت الميدان، وجلسوا يهتفون بصوت واحد "الشعب يريد إسقاط النظام".
إلى هنا والثورة لاتزال محافظة على سلميتها، حتى تدخلت الشرطة فى نهاية اليوم وفضت اعتصام التحرير بمنتهى القوة، وكانت قوة مفرطة ربما فاقت تصوارتنا عن وحشية الداخلية، عندئذ تفرق المعتصمون فى الشوارع الجانبية، وساروا فى مسيرات صغيرة وراحوا يهتفون ضد النظام.
مرت الأيام التالية والتظاهرات مستمرة فى عدد من المحافظات، كان أكثرها اشتعالاً هى محافظة السويس، والتى أعلن فيها رسمياً عن سقوط أول شهيد للثورة يوم 27 يناير. من هنا تغير مسار الثورة تغيراً نوعياً، وليس تغيراً جذرياً، بحيث تتحول الثورة من سلميتها إلى العنف، إنما كانت الصدور متأججة بنار الانتقام من الداخلية، وزاد الأمر اشتعالاً سقوط الشهيد الثانى والثالث فى السويس، وبلغ عدد المصابين 350 مصاب.
وكان يوم جمعة الغضب، وهو اليوم الأهم فى الثورة، من حيث أعداد المتظاهرين التى ازدادت بسرعة جنونية، أو من حيث أحداث اليوم التى توالت إلى نزول الجيش إلى الشوارع.
هنا ثمة أسئلة يتعين طرحها، أهم تلك الأسئلة من وجهة نظري:
هل خرج المتظاهرون من المساجد مسلحون أم أنهم خرجوا بأيادى خاوية ؟
هل بدأ المتظاهرون فى الاعتداء على رجال الشرطة أم أن رجال الشرطة هم الذين بادروا بالعنف ؟
ربما لايختلف اثنان على أن الشرطة بمجرد شروع المتظاهرين فى الخروج من المساجد قامت بإطلاق الغازات المسيلة للدموع، وفتح خراطيم المياه، ثم الهجوم على المتظاهرين بأعداد كبيرة من الامن المركزي.
فى البدء صمد المتظاهرون وتحملوا الضربات الأولى بمنتهى الصلابة، بيد أنه فى لحظة ما كان يبنغى رد الضرب ولو بالحجارة لفتح الطريق أمام المتظاهرين. انتهج كل فريق من المتظاهرين طريقة مختلفة لكسر حواجز الأمن المركزى، فمنهم من رشق سيارات الشرطة بالحجارة، ومنهم من التحم بالشرطة وتلقى الضربات حتى خارت قوى الأمن المركزى وبدأ فى التراجع.
إذن يمكننا القول أن رد الثوار لم يكن عنيفاً بصورة منظمة مما يوحى بأنهم نظموا أنفسهم تحت شعار الثورة العنيفة، بل إن معركة قصر النيل دليل دامغ على أن المتظاهرين ظلوا سلميين إلى أبعد مايمكن، فرجال الشرطة قد استخدموا كل الوسائل الممكنة لمنع المتظاهرين من بلوغ ميدان التحرير، بينما ظل المتظاهرون يتدافعون رغم قنابل الغاز والرصاص المطاطي وخراطيم المياه دون رد عنيف، حتى تساقط الشهيد تلو الشهيد فانتفض الناس بصورة عفوية وبادلوا عنف الشرطة بعنف مشروع وهنا بيت القصيد.
التحول الذى حدث فى رد المتظاهرين من السلمية التامة إلى الرد بالحجارة على الشرطة، هل يدفعنا لأن نصف الثورة بأنها عنيفة أو أن العنف هو الحل الأمثل للثوارت، وهل يخرج هذا الثورة من دائرة السلمية؟
لايمكننا إنكار حق المتظاهرين فى الدفاع المشروع عن أنفسهم، لكن دفاع الثوار عن أنفسهم سواء برشق الحجارة أو حتى بإشعال النيران فى أقسام الشرطة التى ثبت أنها أطلقت النيران بصورة عشوائية على المارة، لايضفى صفة العنف على الثورة، فالثوار خرجوا بسلمية تامة منذ أول يوم وحتى سقوط الشهداء بأعداد كبيرة، ورد الثوار حق أصيل لاينكره عاقل.
على أن وصف الثورة بالعنيفة يحتاج إلى دليل على استمرارية العنف من جانب الثوار حتى نجاح الثورة، وهذا لايمكن لأحد أن يزعمه، فبعد انسحاب الشرطة أعلن المتظاهرون اعتصاماً فى ميدان التحرير وميادين أخرى، ولم يتابعوا مثلاً رجال الشرطة ويقتلونهم.
لاحظ أيضاً أن رجال الشرطة كانت أعدادهم بالألاف بينما أعداد المتظاهرين بالملايين، ورغم ذلك لم يسقط من رجال الشرطة إلا أعداد قليلة جداً، إننا إذا قارنا ثورة مصر بثورة ليبيا فى هذا المضمار لايمكن أبداً أن تسعفنا الدلائل لوصف الثورة بالعنيفة.
إن مقارنة بسيطة بين أعداد الشرطة التى سقطت عندنا وكتائب القذافي، وبين ثوار مصر وثوار ليبيا يهدم أقوال أولئك القائلين بعنف ثورتنا.
وأخيراً فإن موقعة الجمل ذات دلالة بالغة الأهمية، فرغم سقوط مئات الشهداء من جانب الثوار، لم يسقط قتيل واحد من البلطجية، مع أن الثوار قد ألقوا القبض على الكثيرين منهم أثناء احتدام المعركة، ومع ذلك لم يتعرضوا لهم بسوء، بل إن شاشات الفضائيات نقلت صوراً لبعض البلطجية والأطباء الميدانيين يعالجونهم من الإصابات الناجمة عن التراشق المتبادل بالحجارة.
إن سلمية الثورة ليست عاراً نتبرأ منه، بل إن سلمية الثورة هى التى جعلت العالم كله ينحنى أمام الثوار المصريين، وأي مقارنة مع أي ثورة أخرى لن تكون فى صالح دعاة العنف.
7 التعليقات:
رووووووووووووووووووووووووعة تسلم ايديك والله
أسلوب رائع وتحليل جيد بس انا اتحفظ على مقارنة ثورة مصر بثورة ليبيا من جهة العنف .. ثورة ليبيا مش عنيفة لكنها مسلحة فبتالي اعداد الضحايا لازم يكون اكثر مننا بكتير.
أستاذ محمد أحييك على كل كلمةواتفق معك :"إن سلمية الثورة ليست عاراً نتبرأ منه، بل إن سلمية الثورة هى التى جعلت العالم كله ينحنى أمام الثوار المصريين". وأعتقد ان المرحلة القادمة تحتاج مننا ايجابية أكثر ..هدفنا الآن صندوق الانتخاب
إذا قررنا أن نتخذ طريق معين وسرنا به بالفعل ،فلا يجب علينا أن نتخذ طريق جانبي أو نغير خط السير لنصل إلي نفس هدفنا الذي سنصل إليه إذا استمرينا بالسير ،أو كما يقال لا تغير حصانك في منتصف الطريق ،لقد ارتضينا منذ البداية أن يكون التغيير السلمي وثورتنا ثورة سلمية بالفعل ،أنا انزل من بيتي لا امتلك شئ سوي صوتي للهتاف.
البوست جميل كالعادة :))
كلامك لا خلاف كبير عليه لكن قوله في هذا التوقيت يشعرني باننا قد بدأنا في رفع السلاح علي الجيش والشرطة وهذا لم يحدث مازالت الثورة سلمية ومازال المواطنون رد فعل لا يبدأ احدهم بالعنف بل يرد علي العنف والاهانة وسلمية الثورة لا تعني ان نحني رؤوسنا للانتهاكات بل نرد الصاع صاعين وثلاثة وهذا هو ما سيجعل الثورة تستمر بنفس القوة من اجل تحقيق المطالب الثورية المشروعة
هو معني العنف اني انزل بسلاح واني ابدأ ضرب الشرطه ولا معناه ايه بالظبط ؟؟
وفكره الملتوف مش عارف انت مزكرتهاش ليه .؟؟؟
اعتقد ان ورتنا ولا هي سلميه ولا هي عنيفه بالمعني القديم "الروسي مثلا "
يعني مش ثوره مسلحه بس هي لم تكن سلميه ابدا ولم تكن عنيفه ابدا ......
ارفع راسك فوق انتا مصرى
إرسال تعليق