كان يوماً كسائر الأيام.. استيقظت مبكراً كالمعتاد، ارتديت ملابسي على عجل حتى ألحق بسيارة العمل، ورغم أن تلك السيارة بطيئة وضيقة وقديمة إلا أنها أفضل بكثير من انتظار الأتوبيس لوقت طويل، أو مزاحمة الموظفين والطلبة داخل مترو الأنفاق. مضى عم دسوقي قائد الأتوبيس في طريقه حيث يقلنا إلى العمل، ولم يتأخر عم دسوقي سوى نصف ساعة حيث إن الطريق لم يكن مزدحماً اليوم بالدرجة المعتادة .
كالعادة انهمكت في العمل، مع مايتخلل ذلك من تناول وجبة الإفطار، وكوب الشاي الساخن، والحديث مع زميلي أحمد حول المعركة الشرسة التي دارت رحاها أمس في منزل خطيبته رانيا. وظل أحمد يحكى عن استبداد والدة رانيا، وتدخلها الدائم في علاقته بخطيبته، وكعادتي لم أقاطع، بل ظللت أستمع، وأهز رأسي إشارة إلى الرضا التام عن موقف أحمد خشية أن ندخل في جدال عقيم حول حرية المرأة في العالم العربي كما أراها وكما يراها أحمد وكما تراها حماة أحمد، أو كما يسميها الحُمى!
وما أن رحل أحمد إلى مكتب المدير بعد أن أبلغه عم سيد الساعي بالمصلحة أن المدير طلب رؤيته، وكانت علامات السخط تعلو وجهه، والشرر يتطاير من عينيه؛ حتى جاءت ياسمين.. إنها زميلتي الجديدة التي لاتدرك شيئاً عن العمل، ولكن خالها العضو بالحزب الوطني وجد لها سبيلاً للتعيين في الوظيفة. دخلت علي كعادتها ترمقني بنظرات ظاهرها الحنان والود، وباطنها الخداع والاستعباط، كانت ياسمين تظن أنها تخدعني حين تتحايل علي لأنهى لها بعض أعمالها، وأن سر موافقتي الدائمة على عمل ماتطلبه مني نظراتها الساحرة؛ لم تكن تدرك أن السيد المدير أبلغني أن أنجز ماتطلبه مني، وذلك لإلحاح خالها على السيد عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطني لإحسان معاملة ياسمين في العمل، وإشعارها بأنها شخصية ناجحة ومحبوبة، رغم أنها تجاوزت المرحلة الجامعية بعد 9 سنوات من السقوط المتكرر . وبدوره ضغط السيد العضو على السيد المدير والذي ضغط دمي وأبلغني بإنجاز أية مهمة تطلبها ياسمين . رحلت ياسمين ولازالت ترمقني بنظراتها الخادعة، وأنا أومئ برأسي كالأبله لأشعرها بمدى ذكاؤها الفطري في خداعي!
عاد أحمد من مكتب السيد المدير ورأيته من بعيد متجهاً نحو المكتب الذي أجلس عليه، نهضت من على الكرسي، ومشيت في الإتجاه المعاكس لأحمد. لكن مالبثت أن اصطدمت بالأستاذ علي، ياويلي..! يبدأ الأستاذ علي محاضرة كل يوم عن الإلتزام، والإنضباط، والإستقرار؛ فيبدأ قصيدة كل يوم بأن الرجل الذي يعيش بدون إمرأة لم يذق يوماً طعم السعادة، وأن السعادة الحقيقية في تتقاسم اللقمة مع شريكة حياتك كما يحب أن يسميها الأستاذ علي، كالعادة نظرت إلى الأرض مستمعاً للحكمة المفرطة التي تنساب من بين شفتي الأستاذ علي، وظللت أومئ برأسي موافقاً بالطبع على مايقوله الرجل الحكيم، وفي داخلي هاتف يلعنني لأني هربت من صديقي المخلص أحمد .
- ألم يكن أحمد بمشاكله الغبية أرحم من هذا الثرثار!
- تعلو وجهي ابتسامة بلهاء لأدلل على رضائي التام عن مسألة الزواج التي يناقشني فيها الأستاذ علي، وعقلي مشغول بالتفكير في كيفية التخلص من حكمته المفرطة .
- وجدتها! .. هكذا قال نيوتين وهكذا قلت، أتت الفكرة التي سأتخلص بها من الأستاذ علي الحكيم !
- أستاذ علي.. هل تسمح لي بأن أتركك ملياً لكي أتوضأ وأصلي الفجر، فالنوم قد غلبني، ولم أستطع الصلاة في المسجد .
- وهنا هز الأستاذ علي رأسه، ثم مصمص شفتيه قائلاً : لاحول ولاقوة إلا بالله.. لماذا ياولدي؟ .. ألم أخبرك أن صلاة الفجر لها فضل عظيم، وأنها علامة فارقة للمؤمن عن المنافق.. وانفجر الأستاذ علي في سرد مناقب صلاة الفجر.. وأنا لازالت متصلباً أمامه لا أقوى على الحركة يمنة أو يسرة !
- ثم لعنت نفسي، ولعنت صديقي أحمد، وياسمين، والمدير، وخال ياسمين، والحزب الوطني، والضجر يملئ صدري، والأستاذ علي لازال على المنبر يلقى خطبة الوداع .
- فلم أجد بد من أن أصارحه بالحقيقة.. أستاذ علي أنا مسيحي!
0 التعليقات:
إرسال تعليق