الاثنين، 23 يناير 2012

ليلة شتوية في حضرة العاهرة!

 

“وعرفتُ أن الليالى

مذاقُ قطرةٍ من العسل، على اللسان تتلاشى.

أنّ الأشياء، دوماً، مُهدًّدةُ بالغياب

وأنني، ذات يومٍ، كنتُ هنا، في هذا المكان.

حيث لن أكون، أبداً، مرةً أخرى.”

                                                                           سركون بولص, عظمة أخرى لكلب القبيلة

كانت ليلة شديدة الظلمة، انزوى القمر فى حضن السماء، وضجت الشوارع بالناس، وغصت الحوانيت بأصحاب الأموال، بينما كنت أتسكع فى شوارع وسط البلد، أحدّق فى الوجوه، أتأمل المحال، أفتش فى عيون الناس عن شئ ما لاأعرف كنهه.

ساقتني قدماي إلى مقهى يبعد خطوات عن بناية نقابة الصحفيين، جلستُ معي فى ركن قصيّ أمارس هوايتي فى تأمل البشر، والنظر إلى وجوههم، لعلني أظفر بشئ ما مما أفتش عنه منذ سنواتٍ بعيدة.

جاءني فتى يافع يعمل فى المقهى تكسو وجهه سُمرة تنبئ عن أصله الصعيدي، وسألني عما أريد، طلبت قدحاً من القهوة، وحجراً من الشيشة.

لم ألبث إلا قليلاً حتى قدِمَ الفتى، ووضع القهوة أمامي، وحجر الشيشة إلى جوارى، وسألني عما إذا كنت محتاجاً لشئ أخر، فشكرته، وانصرف.

شربتُ على مهلٍ قهوتي، ونفثت دخانى، وبقيت أتابع سحب الدخان المنعقدة وهى تنحل رويداً رويداً حتى تتلاشى، وتغيب مع أشياءٍ كثيرة غابت ولا نعرف أين ذهبت.

على منضدة إلى جوارى كانا يهيمان فى سماء العشق، شاب وفتاة لايزالان فى مقتبل عمرها، بدت عليهما أحلام شباب الجامعة، الطفولية إلى حد بعيد، خيل إليّ أنهما يتفاوضان حول بعض قطع الأثاث فى شقتهما التى يحلمان بها، بدت الفتاة متشبثة برأيها، وبدا هو مفاوضاً جيداً، يداعب يديها، ويرمقها بنظراتٍ يملؤها الحنين إلى شفاهها.

أمام منضدتهما كان يجلس جمعُ من الشباب المتحمس، هكذا رأيتهم، صوتهم العالى، واحمرار وجه بعضهم فى وطيس المناقشات يشى بالثورة الرابضة فى الصدور، منتظرة لحظة الانفجار، ربما ثورة على الأباء أو العادات أو الفتيات، أو ربما يحدو بهم الجنون لأن يثوروا على الحكومة!

وإلى جوار منضدة الشباب الثائر، تحديداً المنضدة التى تقع أمامي، كانت تجلس بمفردها، ربما كانت تجلس معها مثلما أجلس معي، نفثت دخان شيشتها ورمقتني بنظرة، وتبسمتْ.

لم يكن غريباً علي ذاك الموقف، فقد خبرتُ وسط البلد لسنوات عديدة، وعِرفتُ خبايها، وسراديبها، وأروقة المزاج والمتعة فيها.

بنظرة الخبير العارف، ترقبت نظرتها التالية، وبسمتها الآتية. كانت لحظات الصيد ممتعة، فلذة الانتظار لايضاهيها إلا نشوة الظفر بالغنيمة. هكذا تعلمت فى مدرسة وسط البلد.

وفى لحظات الانتظار، التفت، وألقت نظرة مشوبة بابتسامة ساحرة، كانت تلك إشارة البدء، وسرعان مانهضت من مجلسي، وقصدت مجلسها، تبسمت لها وقلت بصوت الصائد الماكر: أقعد؟

رقصت عيناها فرحاً، وعلّت الابتسامة وجهها، وقالت وهى تلملم ذاتها: اتفضل.

تبودلت الكلمات المعتادة، وضحكنا وجلجلت ضحاكتنا، ثم نادت فتى المقهى، وطلبت الحساب، وكعادتهنّ تظاهرات بإخراج النقود، وكعادتي بادرت بدفع الحساب، وقمنا سوياً نترنح من الضحك.

وكأننا فى مسرحية نتقن أداء أدوراها، صار كل شئ كما يجب أن يكون، سِرنا سوياً إلى محل يبيع الخمور، يعرف رواد وسط البلد جيداً موقع ذاك المحل، بخطوات متناغمة، وكأن قدمينا تحفظ طريقنا عن ظهر قلب.

أحضرنا عدة زجاجات من البيرة، وزجاجة وايّن، وسألتها إن كانت لها رغبة بالحشيش، فزمّت شفتيها، وهزت رأسها رفضاً، وانتهينا إلى سيارتي، وقصدنا منزلي.

داخل الصالة الفسيحة، خلعت معطفها، وبدت تقاسيم جسدها فى ثوبها الضيق أشد جمالاً، لماذا يرتدون تلك المعاطف الحاجبة لنور أجسادهنّ؟

فتحنا زجاجات البيرة، وتجرعنا منها حتى ثملنا، ثمّ صبت لكل منا كأس من الوايّن، شربناه على عجلٍ، وتحركنا ببطئ إلى غرفة النوم.

كانت حركاتها تنبئ عن خبرة واسعة بعملها، تجردت من ثوبها، ومن ملابسها الداخلية، ووقفتْ عارية تماماً، وقالت:

تحب ألبس قميص نوم، ولا نخلص علطول.

ضحكت بصوت جنوني، كان ذلك تأثير الكحول، وقلت: تعالى تعالى.

لم تنتظر حتى أخلع ثيابي، اندفعت نحوي وأمطرتني قُبلاً، وأمطرتها أنا الأخر.

كان الأمر أشبه بمنافسة بين متصارعيّن، كلاهما يود الفتك بالأخر ليظفر بجائزة ما، ومع ذلك كانت مضاجعة ملئية بالدفء فى تلك الليلة الباردة، حتى أن تلك الرعدة المفقودة لدي منذ عهد بعيد، عادت إليّ تلك الليلة.

سائلتني وهى متكئة على السرير: ليه كنت بتبصلى وإحنا شغالين؟

كان من المحال فى تلك الليلة أن أوقف سيل الضحك، ضحكت كعادتي، وقلت بأنفاس لاهثة متعبة: لدي متعة لاتضاهيها إلا متعة الجنس، أعشق وجه النساء حين يتقلص من أوجاع المضاجعة.

انفلتت منها ضحكة رقيعة، وقالت: باين عليك مش عاتق، بس إيه ياخويا بتتكلم زي الناس الخنيقة كده ليه.

قلتُ: أنا معيد فى الجامعة، وبدّرس فلسفة للطلبة، وناشط بحركة الدفاع عن العمال والفلاحين.

قاطعتني بسرعة، وكأنها تتقيأ نفس سيجارتها، وقالت: يخربيتك إنت من الملاحيس بتوع السياسة.

وواصلت بسرعة لم تمنحني لحظة للجواب: تلاقيك لايف على بت من الحلوين اللى بيطلعوا فى التلفزيون ويقعدوا يرغوا فى السياسة.

كانت نبوءتها فى محلِها، كنت فى علاقة مع صديقة تعرفتُ عليها فى مظاهرة لدعم القضاة إبان أزمتهم مع النظام، وكانت علاقتنا متشابكة ويشوبها الارتباك، وبالكاد كنا نتفاهم فى مرات قليلة، عندما تتجرد من ثياب الناشطة، وثياب أخرى.

قطعت شرودي، وقالت: إنت باين عليك غرقان لشوشتك، بس أنا عايزة أسألك سؤال.

بفتور أجبتها: اسألي.

قالت، وقد ارتسمت الجدية على وجهها: إنت ترضى تتجوز واحدة زيي؟

اجتاحتني الدهشة، وترددت فى الجواب، فقاطعتني: لا طبعا، هو فى واحد يسيب صاحبته المثقفة، ويتجوز واحدة عاهرة.

بسرعة غريبة قلت لها: هى أيضا عاهرة لكنها تجيد الفلسفة.

2313041055_9907de7da4_o


Share/Bookmark

الجمعة، 20 يناير 2012

“أنا” و “أنا” !

" أَرى السماءَ هُنَاك في مُتَناوَل ِ الأَيدي.

ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ

طُفُولَة ٍ أُخرى . ولم أَحلُمْ بأني

كنتُ أَحلُمُ . كُلُّ شيء واقعيُّ . كُنْتُ

أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً .....

وأَطيرُ . سوف أكونُ ما سأَصيرُ في الفَلَك الأَخير ."

                                                                                      محمود درويش

فى وسط ذاك الركام الهائل من المشاغل التى تحدّق بي، كان لابد لي من أن ألتقي بي لأتبادل كلمات وأناقش أفكار طالما احتجت إليها، وطالما حيرتني.

جذبت نفسي بعيداً عن صخب المحيطين بي، وجلست معها فى غرفةٍ ضيقة تكسو جدرانها كتب كثيرة، بعضها ينبئ عن هوية متدين سلفي، وبعضها عن هوية كاتب يهوى الأدب والفلسفة.

أشعلت سيجارتي، وحدّقت فى وجهي وفى نفسي، بدت لي نفسي غريبة عليّ، شخص أخر غيري، شخص يرابض فى مكان غير جسدي، يبدو ثائراً راديكالياً فى أحيان، وإصلاحياً فى أحيان اخرى.

تأملتني مرة أخرى، وأمعنت النظر في فلم أحس نحوي بأية مشاعر قد تخامرني لأحبني.

لماذا تفعل ماتفعل؟

كان هذا السؤال الأكثر إلحاحاً من جانبي، وكان الجواب الأكثر هروباً وتفلتاً مني. لماذا أفعل ما أفعل، هل أبدو لي كما يراني بعض من يقربني. لا أرى نفسي كما يراني هم، وهم يلحون دائماً علي أنني أنا، ومع ذلك ففي جلستي مع نفسي لا أعرفني.

أبدو أقل ثورية، أقل عشقاً للأدب، أقل شغفاً بالموسيقى، أقل ولعاً بالكتابة، حتى أنني أكاد أظن أن ثمة مرض قد فتك بي حتى تبدلت نفسي، واستحالت أخرى.

لا شئ ثابت، تلك القاعدة الأساسية فى حواراتي معي، إلا أن الحقيقة الثابتة الوحيدة فى حواراتي معي دوماً هى كراهيتي للموت، كراهيتي لمفارقة الحياة، رغم أني لا أجد فيها مايبعث على البقاء فيها، بيد أني لم تستبد بي يوماً رغبة للفرار مني إلى حياة أخرى.

ربما السبب وراء ذلك غموض علاقتي مع الإله، فعلاقتي به مرتبكة ومتغيرة، تتبدل بصورة مضطردة، من بُعد إلى قرب بجنون، إلى فقدٍ لهوية الرب، إلى محاولة للبحث عن كنه الذات الغارقة فى السماوات، حتى تصل إلى درجة من العدائية تستحيل حباً صوفياً فى بعض الأوقات.

علاقتي المرتبكة ليست مع الله وحده، بل تكاد تكون كل علاقاتي تقريباً بمن حولي مشوبة بالارتباك والغموض، لا أعرف لماذا أتقرب من أناس لا أحب نفسي حين أكون معهم، ولا أعرف لماذا أبقى قريبُ من نساءٍ لا أحتاج إليهنّ ولا يحتاجون إليّ، كلانا يمثل دور العاشق سئ الحظ الذى يبحث عن صديق يعوّض نقص الحبيب.

أشارك بجدية فى مسرح منْ حولي متقمصاً دور الصديق والأخ فى مسرحيتهم السخيفة، أحس بخفة من حولي حين لانتقن أدوارنا، فحين تلتقى العيون ويحس كل منا بأننا لسنا بارعين فى أداء أدوارنا أشعر بانسحاقي داخلي، وبرغبة مُلحة فى تقديم قربان لمن كشف حقيقة دوري فى مسرحه.

وذاك الشعور لا أفهمه، إذا كانت لدي بالفعل رغبة فى الانزواء بعيداً عن هذا الصديق، لِما أحزن حين يوشك رحيله\ رحيلها.

فترات التحول في حياتي كثيرة، ومن نقيض إلى نقيض، ربما بتدخل إلهيّ، أو بهوى داخلي للتقلب داخل رقعة الحياة بإرادة تبدو إرادتي.

أفعل أشياء لأحس بمشئيتي وإرادتي، أحب حين أكون خفيفاً لاشئ يعجبني، أكتب، أقرأ، أحب، أكره، أركض، أقف، أمشى، أهرول إلى إمرأة لاتعجبني، أقبل إمرأة تحبني ولا أحبها، أفعل أشياءً كثيرة لأحس بخفة الأشياء وثقل الهواجس.

ضحكتْ نفسي، وقالت ألا تكف عن حب درويش، ألا تكف عن محاكاته فى أشعاره، فقلت لها سخرتُ من هوسي بهِ لكني أحس بإرادتي ومشيئتي حين أقرأه، أو أحاكيه، يشعرني بذاتي، بحقيقة أن ثمة أناس يستحقون الحياة، أو أن ثمة أشياء تستحق أن نحيا من أجلها.

تململت من طول الوقت، فلم أعتد الحوار معها، خامرني ضجر، فقلت لها: هل فهمتِ شيئاً مما قلتهُ لكِ، تبسمتْ وقالت: إن فهمنا أنفسنا قتلتنا الحقيقة، وداعاً.

ونهضت من مكانها، وألقت سيجارتها على الأرض، ورحلت.


Share/Bookmark

الأحد، 1 يناير 2012

فى رثاء مريم !

161980_167037560008401_968295_n

ضحكتها حرية الشهداء على خد مريم العذراء

عينيها نور الرب فى آيات سورة النساء ..

شفتيها كوردة طاف شذاها فأيقظت ملائكة السماء..

هادئة كضحكة مصر حين ترتاح على خد النيل..

روحها مداعبة الصغير لثدي أمه وهو غارق فى نومه..

أرثاء الملائكة كرثاء البشر؟

أروح الطفولة كروح الكهول؟

أبتسامة مريم كابتسامة غيرها؟

مر عام على رحيل الملاك، ويدُ ملوثة بدمها ماتزال تعبث بجسد وطن نزف جميلة من أجمل بناته.

كيف اختارتها يد الموت من بين هؤلاء.. هى مهد الحنان، ومعبد المحبة، ونور الله فى مشكاة الحياة.

كلما تأملت صورتها أحسست أن الله يكلمنى، أن الله يخبرني بأن مريم هناك تلهو مع أطفال الجنة.

يخيل إلي أنها تحنو عليهم وتداعبهم وتركض بينهم باسمة، والله هناك يضحك.

مريم فكرى .. شهيدة كنيسة القديسين 2011


Share/Bookmark