الجمعة، 5 نوفمبر 2010

حكاية وطن (3)

(3)

على الرغم من كون جون وحيدا ويملك من أسباب الرفاهية مالايملكه غيره، ومع التدليل المفرط من أمه له، لم يكن جون مغرما باللعب كغيره من الفتيان. كان مغرما بالقراءة إلى حد الجنون، حتى أن أباه خشى عليه أن يكون به علة، وسأل بعض من أصحابه عن غرام جون بالقراءة، بعضهم قال إن ذلك بسبب أنه وحيد ولايجد من يلاعبه، والبعض الأخر نصح والده بعرضه على طبيب نفسى.

غير أن الأم رفضت رفضا قاطعا أن يذهب ابنها إلى الطبيب النفسى، وأكدت لزوجها أن ولدها طبيعى، وأنه مغرم بالقراءة كما يغرم غيره باللعب، وكانت تلك عادة الأم، فهى المحامى الموكل دائما للدفاع عن جون، سواء كان محقا أو مخطئا.

ما إن وصل جون إلى منزله بعدما فارق الصديق الجديد، حتى أخذ كتابا من تحت السرير، كانت تلك عادته في إخفاء كتبه بعيدا عن يد والده، وأخبر أمه أنه سيجلس فوق سطح المنزل كى يقرأ قليلا قبل عودة الأب، تذمرت الأم وقالت له: بلاش ياجون أبوك لو عرف هيعمل مشكلة.
كان الرد الوحيد على أمه أن طبع قبلة على رأسها، وقال لها: لما بابا يخبط ماتفتحيش إلا لما أنزل .
تبسمت الأم، وقالت له: أنا عارفة بس القراية دى عاملالك إيه.

تناول جون رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، وصعد إلى السطح، وراح يتذكر المرة الأولى التى قرأ فيها لنجيب محفوظ، وكيف أغرم بكتاباته، يومها كان في مكتبة وزارة الثقافة بمدينة شبين الكوم، وكان يبحث عن رواية يقرأها، فوقعت عينه على رواية السمان والخريف، فمد أصابعه وجذبها من بين أرفف الكتب، وجلس في جانب من المكتبة، ومضى يقرأ الرواية، لم يشعر بالوقت يومها، حتى أحس بيد تربت على كتفه، نظر مضطربا فوجد أبيه يقف خلفه، ومنذ ذلك اليوم ونجيب محفوظ عنده هو الكاتب المفضل، والأديب الأوحد، حتى أنه ابتاع كل رواياته، وأخفى بعضها تحت السرير كى يعود إليها أثناء الدراسة، إذ أن والده يخفى باقى الكتب في غرفته أثناء الدراسة.

قطع جون حجاب الذكريات الذي غطى نفسه في تلك اللحظات، ومضى يقرأ، كان صوت أمه يصعد إليه بين الحين والأخر وهى تشدو ببعض الترانيم التى تعشقها، فأم جون امرأة متدينة، تذهب للكنيسة كل أحد رغم أنها تضطر إلى الذهاب إلى المدينة كى تصلى، فلا توجد كنيسة في قريتها ولا في القرى المجاورة لها.


كان وجود أم جون بين النساء في القرية كافيا لإشاعة جوا من البهجة، فهى امرأة رغم تدينها لاتعبس في وجه أحد، ودائمة البسمة، حتى أن الكثيريات من نساء القرية سألوها: هو جون ياأختى طالع لمين، ده مابيضحكش أبدا.

كانت تتبسم كعادتها، وتؤكد لهن أن جون مرح ويحب الضحك، لكن دائما مايتولاه الخجل أمام الأخرين.

على صوت الترانيم الرائعة، وبين سطور الحرافيش دق الأستاذ مجدى باب المنزل، اضطرب جون وقام من فوره، وهبط السلم بأسرع مايمكن، حتى أن أمه غمرها الخوف حين رأته يقفز على السلم. فتحت الأم الباب، فبان الأستاذ مجدى ذو القدّ الرشيق، والبشرة السمراء، فتلقفت الأم مافي يده من أكياس، وقالت له بصوت متهدج وكأنما أرادت أن تشاركه التعب: اتفضل ياأخويا، حمد لله على سلامتك.

ولجت الأم إلى المطبخ لتضع الأكياس التى أحضرها أبو جون، وعادت لتساعده في نزع ثيابه عنه، لكنها وجدته قد خلع حذائه، وفتح قميصه قليلا، ومدد جسده على الكنبة، بدا الأب منهكا وحزينا، اضطربت الأم وتملكها الحزن والقلق، سألته بصوت يغشاه القلق: حد ضايقك ياأخويا؟
- مفيش ياأم جون مشاكل الشغل
- معلش ياأخويا هى الدنيا كده مابتسبش حد مرتاح، قولى بس إيه اللى حصل.
بأنفاس مثقلة، وكلمات تخرج من فمه كأنما ينتزعها انتزاعا حكى لها أن زميله أحمد في العمل تعارك مع المدير، ووجه له المدير إهانات عدة لم يحتملها أحمد، فقام واعتدى على المدير، وتطور الأمر وحوّلوا أحمد للتحقيق، ويبدو أنه سيتعرض للرفد، أو النقل للصعيد.
- امتعضت الأم، وبدا وكأن الهم الذى بزوجها قد انتقل إليها هى الأخرى، وقالت: ده الأستاذ أحمد راجل محترم والعيبة عمرها ماطلعت من بقه، والست مراته ست زى السكر، دوول ناس محترمين، ياعينى دوول ممكن يتبهدلوا ياأبو جون.
- أطرق أبو جون وهز رأسه مبديا موافقته على كلام الأم
- طيب ياأخويا ماتحاول تهدى النفوس بينهم
- حاولت ياأم جون بس الشيطان دخل مابينهم
- طيب هدى نفسك، واللى فيه الخير يقدمه ربنا
ربتت أم جون على كتفه، ومضت نحو المطبخ كى تعد الطعام للرجل المكروب.

حاول أبو جون النوم كى ينسى قليلا الهم الذى ألمّ به، وجاهد كثيرا غير أن النوم أبى عليه، فانتفض قائما وعلامات التذمر بائنة على وجهه، ثم انتصب قائما، ومضى ناحية غرفة جون، فتح باب الغرفة، فوجد جون نائما، والحق أن جون كان يتظاهر بالنوم كى لايعرف والده بأمر عودته للقراءة إبان فترة الدراسة.

كان الفراغ يقتل الرجل، ويزيد من همه، فالأستاذ أحمد بمثابة الاخ له، منذ قدم إلى الشركة، وجده زميلا حنونا، يساعد الجدد، ويأخذ بأيديهم حتى يتقنوا أعمالهم، كما أنه على المستوى الإنسانى شخص رائع، لم يترك مناسبة إلا وكان أول من شارك فيها سواء كانت فرحا أو حزنا.




Share/Bookmark

5 التعليقات:

hala يقول...

هذا الجزء رائع وممتع
بدي اسألك..هل صحيح انه اهل الصعيد طيبين زياده عن اللزوم ؟؟؟
بعكس الفلاحين سمعت انهم احدق من الصعايده وعندهم شوية خبث

سجل .. أنا مصرية يقول...

جميل ومنتظرين الباقى

محمد أبو العزم يقول...

هالة
أهل الصعيد طيبين والفلاحين طيبين بس الصعايدة أكثر جدعنة
عشان كده بيظهروا أنهم أكثر طيبة
تحياتى

محمد أبو العزم يقول...

جمهورية فوضى
أشكرك على مرورك الدائم
تحياتى

hala يقول...

امتى رح تكتب الجزء التالي ؟؟

إرسال تعليق